دراسات قانونية
أثر التقويم الهيكلي على سياسة التوظيف (بحث قانوني)
انعكاسات التقويم الهيكلي على سياسة التوظيف بالمغرب
ذ محمد بوكطب
اطار بوزارة الداخلية؛
باحث في صف الدكتوراه، مخبر العلوم القانونية والسياسة والادارية بكلية
الحقوق بوجدة
تخصص التدبير الاستراتيجي للموارد البشرية بالادارة والمقاولات
للإطلاع على هوامش الدراسة و الجداول المرفقة بها يرجى الولوج عبر النسخة المرفقة أسفل هذه الصفحة
b[مــــــــقــــــــدمـــــــــة:]b
لقد كان القطاع العام أول موظف لخريجي التعليم والتكوين، غير أن اعتماد برنامج التقويم الهيكلي منذ الثمانينات سمح له بالفصل بين حقبتين، ما قبله ، وما بعده . إذ تسببت وضعية التقويم الهيكلي في تردي سوق الشغل، حيث وصلت البطالة إلى مستويات عالية خاصة داخل فئة حاملي الشهادات العليا. كما أن تأثير التحولات الاقتصادية والتكنولوجية زادت من صعوبة تحقيق التوازن داخل سوق الشغل، بسبب الارتفاع المتزايد لطالبي العمل، مقابل محدودية فرص التوظيف المتاحة، خصوصا على مستوى الوظيفة العمومية.
إن تطور معدل البطالة يظل في المجمل مرتبطا بالضغوط الداخلية والخارجية التي تؤثر على تغيرات النشاط الاقتصادي. إلا أن مشكل التوظيف، لم يتحول إلى مصدر للإنشغال إلا منذ الثمانينات. ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى الآثار السلبية للظرفية الصعبة التي مرت منها البلاد (الصدمات النفطية، الجفاف، المديونية، تقلبات أسعار الفائدة، وسعر صرف الدولار).
وهذا يفسر جزئيا سبب ارتفاع معدل البطالة في الوسطين الحضري والقروي بالموازاة مع ذلك، لعبت الجماعات المحلية دورا مهما في التخفيف من حدتها .
إن الضعف الذي عرفته بلادنا في فترة الثمانينات سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي، ساهمت فيه عدة عوامل ومحددات، كان من نتائجها تأزم وضعية الإدارة، وضمنها عملية التوظيف على وجه الخصوص.
وإن معرفة المشاكل ومواطن الخلل، تعتبر خطوة هامة في طريق حلها. إن هذه المعرفة لن تتأتى إلا من خلال دراسة وتحليل الظاهرة التي أثرت على أزمة التوظيف سواء الداخلية منها(المبحث الأول)، أو الخارجية (المبحث الثاني).
الإشكالية المطروحة:
إن هذا الموضوع يحاول معالجة إشكالية أساسية، وهي ما مدى تأثير التقويم الهيكلي على سياسة التوظيف بالمغرب؟ هذه الإشكالية الرئيسية قد لا تكتمل أبعادها، ودلالاتها دون طرح بعض الأسئلة التفصيلية التي تخترق بشكل أو بآخر مختلف محاور هذا الموضوع، وذلك من قبيل:
ما هي أسباب تنامي ظاهرة البطالة بالمغرب؟ هل هناك سياسة حكومية بديلة للتخفيف من حدتها؟ لماذا عجزت الإدارة عن استيعاب خريجي التعليم؟ هل ذلك راجع لبنياتها؟ أم لقصورها المادي؟ أم القانوني؟
خطة البحث:
إن الإجابة عن الاشكالية المطروحة أعلاه، يجعلنا نقسم هدا البحث إلى مبحثين: الأول خصصناه للاسباب الداخلية لازمة التوظيف بالمغرب ،ثم خصصنا الثاني للاسباب الخارجية لازمة التوظيف بالمغرب.
المبحث الأول: الأسباب الداخلية لازمة التوظيف
إن رصد مختلف الجوانب الداخلية التي أثرت في أزمة التوظيف، تؤكد أن للنمو الديمغرافي (المطلب الأول)، واختلال قطاع التعليم (المطلب الثاني)، ومحدودية الاستثمار دورا في تأزم وضعية التوظيف بالمغرب(المطلب الثالث)، التي كان لها كبير الأثر على الوضعية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا.
المطلب الأول:عامل النمو الديمغرافي
يمكن تفسير مشكل التوظيف، جزئيا، بالاختلال المتزايد بين البعد الديمغرافي، ومستوى النمو الاقتصادي. وتعتبر الديمغرافيا والنمو الاقتصادي العاملين الرئيسيين اللذين يحددان، إلى حد كبير، تطور مكونات سوق الشغل، حيث يؤثر الأول على طلب الشغل، بينما يؤثر الثاني على العرض.
ويرتبط تزايد الطلب على الشغل بالنمو الديمغرافي، وبعدة عوامل اجتماعية وثقافية مثل التعليم، والتمدين، ومستوى الأجور، ونظام الضمان الاجتماعي. ورغم صعوبة قياس تأثير كل عامل منها على التوظيف،فإن للنمو السكاني تأثيرا كبيرا على تزايد الطلب، الذي يرتفع بمعدل سنوي متوسط قدره 3.2%، وهي وتيرة تتجاوز بكثير نسبة تزايد السكان2.5℅ .
إن معدل النشاط الخام قد ارتفع حسب المعطيات،التي توفرها مختلف عمليات تعداد السكان (1960م – 1971 م– 1982م). بموازاة ذلك، ارتفع السكان الذين هم في سن العمل ، إذ انتقل المعدل بالفعل بين 29% في سنة 1960 إلى 26.6 % سنة1982 م.
وبتعبير قاطع، فقد ارتفع عدد السكان النشيطين من 4041767 مليون نسمة في سنة1971 م إلى 5999260 مليون نسمة سنة 1983 م . وقد أصبح في حدود 9.9 مليون نسمة سنة 1990 م – 1991م، أي بنسبة تزايد سنوية متوسطة بلغت 3.6%، وهي نسبة تتجاوز بكثير النمو الديمغرافي (المحدد في 2.6 تقريبا) . وقد قدر العدد الإجمالي للسكان سنة 1989 م بحوالي 24.594.000 نسمة، يمثل السكان النشيطين منهم 9.419.500 مما أعطى معدلا إجماليا للنشاط (النسبة المئوية لعدد السكان النشيطين) قدره 38.3 %.
وعند فحص بنية الساكنة النشيطة تتبين عدة سمات:
– بالنسبة إلى مكان الإقامة: يقدر عدد السكان النشيطين في المدن ب 3.732.500 مقابل 5.687.000 في الوسط القروي، بمعدل إجمالي بلغ على التوالي 32.3 % و43.5 % في الوسطين الحضري والقروي.
– بالنسبة إلى الجنس: تمثل النساء 36.4 % من السكان النشيطين. غير أن هذه النسبة تصل إلى 42.9 % في الوسط القروي، مقابل 26.6% في الوسط الحضري.
– بالنسبة إلى السن: يتميز السكان النشيطون بالأهمية النسبية للفئات الشابة. وهكذا، فإن نسبة السكان النشيطين الذين يقل سنهم عن 25 سنة تفوق الثلث. وتصل تلك النسبة إلى 40.9 % في الوسط القروي، مقابل 25.7 % في الوسط الحضري.
– بالنسبة إلى المستوى التعليمي: تمثل نسبة المتعلمين الثلث فقط، بينما تصل نسبة الذين لا مستوى لهم في الوسط القروي إلى 83 %، مقابل 31.8 % في الوسط الحضري.أما السكان النشيطون المتوفرون على مستوى جامعي، فلا يشكلون إلا نسبة قليلة تبلغ 3.2 % على الصعيد الوطني (7.4 في الوسط الحضري، و0.4 % في الوسط القروي) .
وقد انتقل عدد السكان الحضريين النشيطين بين سنة 1985 م و1989 م من 300479 شخص سنة 1985 إلى 3370083 نسمة في سنة 1987. و3503764 نسمة في سنة 1988 إلى 3732458 نسمة سنة 1989 .
أما السكان القرويون النشيطون فقد ارتفع عددهم سنة 1986– 1987 حوالي 5.6 مليون نسمة بينهم 57 % من الرجال و 43 % من النساء. و 41 % لم يتجاوز سنهم 25 سنة .
تطـــور معـدلات النشــــاط 1960-1991
عرف الاقتصاد المغربي وضعية صعبة، وعلى وجه الخصوص في بداية عهد الثمانينات، وذلك بسبب نتائج الجفاف القاسية خلال سنوات 1981 – 1983. إضافة إلى ثقل الديون الخارجية، وهبوط أسعار الفوسفاط ، والبطء الكبير في وتيرة النمو . تلك الأزمة التي انعكست على الاقتصاد، والتي مست بطالة الشباب بصفة خاصة، خصوصا الموجودين ما بين 15 و 24 سنة . تلك الوضعية يوضحها الجدول التالي:
ويبدو حسب الإحصائيات الرسمية في المغرب، أن عدد السكان في حالة البطالة وصل إلى 1094000 ضمن مجموع السكان النشيطين، بمعدل 20.6 % في الوسط الحضري، و5.6 % في الوسط القروي، (معطيات بداية التسعينات). بالإضافة إلى ما يعرف بـ “البطالة المقنعة” التي تتزايد أعدادها وأشكالها ومظاهرها، مع العلم أن نسبة البطالة في سنة 1971 كانت 8.8 % وفي سنة 1982 وصلت إلى 10.7 %.
ويفسر تزايد أعداد السكان في حالة بطالة بكون الدولة تراجعت بكيفية ملحوظة عن التوظيف. على اعتبار أن الدولة في المغرب هي المشغل الأول، بل وصل الأمر في السنين الأخيرة، إلى أن الدولة لا تلتزم حتى بتوظيف تلك الآلف المعدودة التي تعد بها في كل قانون مالي. وذلك ناتج بالطبع عن السياسة الاقتصادية التي تطبقها الدولة، والتي لا يمكن أن توفر التوظيف بأية كيفية من الكيفيات .
وعليه، إذا كان نشاط الإدارات العمومية قد عرف تطورا متزايدا، خلال الفترة الممتدة ما بين 82-77، حيث تم المرور من 225.000 إلى 517.000 منصبا . ففي المقابل عرف مستوى التوظيف سنة 1983 انخفاضا كبيرا، حيث تدحرجت النسبة من 150.000 إلى 10000 منصب.
إن رقم 10.000 منصب شغل هو رقم هزيل، لا يمكنه أن يمتص و لو جزئيا تلك الأعداد الغفيرة من الشباب الجامعي المعطل، فبالأحرى الشباب الذي لا يمتلك تكوينا لا جامعيا ولا مهنيا.
وعليه، فإن عاملا آخر سيزيد الطين بلة، وهو سياسة التعليم المتبعة خلال فترة الأزمة. إذن كيف ساهم قطاع التعليم في تلك الأزمة؟
المطلب الثاني: عامل الاختلالات المرتبطة بقطاع التربية و التكوين
منذ حصول المغرب على الاستقلال، والدولة متشبثة بمجال التعليم، لأنه يشكل القاطرة نحو التنمية. لقد جاء في مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية (73-77)،على أن التعليم يشكل الأداة الفعالة التي توصل إليها المجتمع الإنساني، لضمان انتقال المعرفة والتجربة من جيل لآخر، ومن حضارة لأخرى.
إن التعليم في شكله المؤسساتي يضمن شروط التقدم الاجتماعي، ويساهم في تطور الفئات المحرومة. والتعليم يشكل في ذات الوقت عاملا أساسيا في التنمية،لكونه يرفع من المؤهلات المهنية ويشكل مفتاح كل تطور مستقبلي .
لقد استثمرت الدولة خلال الفترة الممتدة بين سنة 1960-1980 حوالي 4430 مليون درهما في مجال التعليم. بالإضافة إلى ميزانية التسيير لوزارة التعليم التي شكلت دائما حوالي 20 % من الميزانية العامة . الجدول أسفله يوضح ذلك:
تطور أعداد المستويات الثلاث لنظام التعليم بالآلاف الوحدات
غير أن النتائج المسجلة والمشاكل التي يتخبط فيها هذا القطاع، والتي اعترفت بها كل المخططات، تبين بوضوح فشل الدولة في تحقيق تنمية هذا القطاع، خصوصا في بداية الثمانينات، حيث ارتفعت نسبة العاطلين الحاصلين على الشهادة بوتيرة متزايدة .
وعليه، سيشكل نظام التعليم بالمغرب عائقا أمام البنيات الاقتصادية، على اعتبار أن منظومة التربية والتكوين، لا تستجيب في معظمها للحاجيات الحقيقية للاقتصاد والمقاولات، مما جعل عدد حاملي الشهادات خارج سوق الشغل يتعاظم سنة بعد أخرى .
والحقيقة أنه، لا يمكن معرفة اختلالات قطاع التعليم، إلا ضمن سياقاته التاريخية،التي تمكننا من التعرف على نواقصه، وأسبابه، وأبعاده.
ولقد وضع التعليم وتعميمه على نطاق واسع في موقع المتهم بإثارته للقلاقل الاجتماعية، وبالتالي، فالحل هو إتباع سياسة تجفيف المنابع ومنح جرعات محدودة ومحسوبة من التعليم، وما يؤكد ذلك الطرح، المذكرة التي وزعها الديوان الملكي على الأحزاب السياسية، يطرح فيه مشاكل التعليم و آفاقه خلال العشرية القادمة (1965-1975). حيث تخوفت تلك الوثيقة من الارتفاع الخطير لعدد التلاميذ من نحو 300 ألف سنة 1955 إلى مليون و300 ألف سنة 1965.
ولتقليص عدد المتمدرسين، اعتمدت الوزارة الوصية على تقنية التخطيط للتحكم في تدفق الناجحين وفق حصيص محدد سلفا (كوطا). وبالتالي، فمن لم تستوعبه الكوطا سيجد نفسه في الشارع، أما في مجال التعليم العالي فسياسة الدولة كانت واضحة وثابتة في الحد منه، وتقليص الولوج إليه ما أمكن .
وعلى وجه الإجمال، فإن طلبات الشغل التي شكلت منذ 1984، كانت نتاج لمجموعة من المشاكل لعبت الإديولوجيا دورا كبيرا في إبرازها إلى الوجود، سواء أكانت تلك المشاكل سياسة (الصراع الذي كان بين الأحزاب السياسية والقصر الملكي)، أو اقتصادية (هبوط أسعار الفوسفاط والمديونية الخارجية…)، أو الطبيعية (الجفاف و الهجرة القروية…).
وتشكل الأجيال من سنة1984 إلى سنة1987،قرابة 40 % من طلبات الشغل المعبر عنها خلال الإحصاء. وبين سنة 1986 وسنة 1989 تراوح معدل حملة الشهادات بين 11 % و 15 %، وقد ارتفع سنة 1990 إلى 18.3 %.
تلك البنية تتغير حسب صنف الشهادة. وبالفعل، فإن عدد حملة الباكالوريا الباحثين عن الشغل بلغ 10.5 % فقط من أولئك الذين حصلوا على الشهادة خلال السنتين الأخيرتين (1989 و1990)، مقابل 71 % من أجيال الفترة (من 1984 إلى 1988)، ويمكن أن يفسر ذلك التراكم في جزء منه بظاهرة إخفاق الطلاب على صعيد التعليم العالي.
وبالمقابل، فإن عدد المجازين الباحثين عن شغل بلغت نسبة (61.5 %) تتكون من متخرجين (42.5 % في سنة 1990) والسنة ما قبلها (19 % في سنة 1989)، مقابل 38 % بالنسبة لسنوات ما قبل 1988 (1).
والجدول يبين توزيع طلبات الشغل حسب سنة الحصول على الشهادة
أنظر النسخة المرفقة
وفيما يتعلق بالتقنيين،فإن عدد الباحثين عن شغل يصل إلى حدود 47 % من الحاصلين على شهادة خلال السنتين الأخيرتين (1989 و 1990)،وإلى أكثر من نصف خريجي السنوات السابقة، مما خلق تراكما هاما لطلبات الشغل المتعلقة بمستوى تكوين متخصص نسبيا .
والجداول التالية توضح ذلك:
الساكنة الحضرية النشيطة البالغة 15 سنة فما فوق حسب الشهادة العليا
التطور المتزايد على طلبات الشغل بالمجال الحضري بناء على الشواهد بالنسب المئوية ما بين 1991-1996
وتشكل الأقدمية في البحث عن الشغل أحد المؤشرات المستعملة لتقدير صعوبة إدماج الباحثين عن الشغل في الحياة العملية . ويتم قياس الأقدمية وفترة البحث نظريا باحتساب الزمن المنصرم منذ بداية البحث الفعلي عن الشغل إلى تاريخ الإحصاء.
ويؤكد تحليل توزيع طلبات الشغل حسب تاريخ البحث عن الشغل، بروز ظاهرة البطالة طويلة الأمد(أكثر من سنة)، التي سجلتها الدراسة المتعلقة بالتشغيل في الوسط الحضري، وكذا ظاهرة التراكم المتوالي لمختلف أفواج الخريجين التي تم تسجيلها سابقا.
وحسب ذلك الإحصاء، فإن 75 % من الشباب حملة الشهادات يبحثون عن عمل منذ أكثر من سنة، و 55 % منذ أكثر من سنتين، وحوالي 38 % منذ ثلاث سنوات . والجدول أسفله يوضح ذلك:
غير أن صعوبة الاندماج في الحياة العملية لا تطرح بنفس الحدة لدى مختلف فئات حملة الشهادات. وفي الواقع، فإن البطالة الطويلة الأمد تعزى بقدر كبير إلى العدد المرتفع لحاملي الباكالوريا، الذين يمثلون 55 % من الشباب الباحثين عن عمل منذ أكثر من سنة.
ومن المعروف أيضا أن صعوبة إدماج حملة الباكالوريا، ترجع أساسا إلى ضعف التأهيل المهني وعدم التخصص بالنسبة لحامليها. ومن ناحية أخرى، يتعين مراعاة ظواهر التراجع والضياع (عدم إتمام الدراسات العليا، وحصر إجراءات التسجيل في الحاصلين على الباكالوريا خلال السنة الأخيرة…). وفيما يتعلق بحاملي الإجازة، يمكن القول بأنهم يمرون بفترة “بطالة في انتظار الإدماج”، حيث إن 38.7 % منهم يبحثون عن شغل خلال الإثني عشرة شهرا التي تلي التخرج. وبذلك فهم أقل عرضة للبطالة لأمد طويل، في حين تبلغ هذه النسبة 27 % بالنسبة للتقنيين، و16.6 % بالنسبة للباكالوريا .
ومن الصعب حصر كافة ونواحي أسباب تفاقم ظاهرة البطالة في بلادنا،نظرا لتداخل تلك الأسباب والأبعاد ذات الحساسية الكبيرة التي تكتسبها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمتمثلة في تحول دور الدولة في مجال التوظيف وتراجع الطاقة الاستثمارية للبلاد.
المطلب الثالث:محدودية الاستثمار
إن الدراسات المهتمة بحقل العلوم الإدارية تقدم مرحلتين تاريخيتين في مسار التدبير الإداري، الأول لصيق بمفهوم الدولة الحارسة، أي أن مهام الدولة كانت تنحصر فقط في توفير الأمن الداخلي والدفاع عن الحدود الوطنية، في حين أن المبادرات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي كانت موكولة للخواص .
لقد كانت المدرسة الليبرالية جد حساسة تجاه تدخل الدولة وتدافع باستماتة عن المبادرة الحرة، هنا ستنبثق فكرة اليد الخفية التي دعا إليها أدام سميث، حيث يرى أن آليات السوق الحرة بإمكانها أن تصحح الإختلالات، وتعيد التوازنات بصفة أتوماتيكية دون أي تدخل كيفما كان نوعه .
لقد كانت الدولة تعتمد وتستند في عملية تدخلها على آليات متعددة توجه من خلالها المسار الاقتصادي وتتحكم في دواليبه ونخص بالذكر:
– وضع ترسانة قانونية صارمة تضبط وتحد من كل مبادرة؛
– التحفيز عبر تركيز الدعم الحكومي على قطاعات معينة دون أخرى؛
– إعادة توزيع الثروات كإحدى السبل الكفيلة بضمان عدالة اجتماعية .
إن ضعف السوق سواء في بلدان العالم الثالث و حتى في الدول الغنية، لا تكمن فقط في هيمنة الدولة. بل لا يمكنها أن تتطور بعيدا عن دعم الرأسمال العمومي، علاوة على غياب البنيات الاقتصادية والمالية والاجتماعية القادرة على الانتقال إلى مرحلة ” اقتصاد مقاولات ” .
إن المتتبع للمشهد السوسيو اقتصادي للدول السائرة في طريق النمو، يبرز مدى عمق تدخل الإدارة العمومية في آليات تدبير الشأن العام. و يمكن تفسير ذلك التدخل، في الحاجة إلى إدارة قوية و متماسكة، خصوصا بالنسبة للدول الحديثة العهد بالاستقلال. علما أن متطلبات التنمية، من توفير البنيات التحتية والاستثمار في قطاعات إنتاجية ضعيفة، لم تكن لتستقطب الخواص. مما يعني أن الإدارة العمومية كانت مجبرة على التكفل بكل مناحي الحياة .
إن تراجع مستوى الاستثمارات الأجنبية خلال عقد الستينات وبداية السبعينات، يجد تبريره في ضعف الاستقرار السياسي ببلادنا، وإعلان السلطات المغربية حالة الاستثناء وتجميد المؤسسات الدستورية، وهي الحالة التي استمرت من 1965 إلى 1970. إن ذلك المناخ أدى إلى فقدان الاطمئنان، وبالتالي إحجام الشركات الاستثمارية عن توظيف أموالها بالمغرب .
وتبعا لذلك، فإن عدم فعالية القطاع الخاص وضعفه، ترجع بالخصوص إلى كون هذا الأخير حديث النشأة، ولم يصل بعد إلى مرحلة النضج التي تمكنه من الحلول محل القطاع العام، وحمل المشعل عنه في المجال الاقتصادي .
إن تلك الانتقادات اللاذعة، ستمهد الطريق لاتخاذ قرارات تسير في اتجاه التقليل من تدخل الإدارة العمومية في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، إجراءات تتراوح بين الجذرية على الطريقة البريطانية بإحداث الوكالات، والاستغناء عن الإدارة العمومية، والخوصصة المستمرة لمؤسسات الدولة، بما فيها بعض القطاعات التي كانت تنعت بالإستراتيجية، وبين تيار آخر كان يراهن على التغيير الجزئي، عبر مراحل كما تبنته دول كفرنسا، ومن سماته:
– التقليص من عدد موظفي الدولة؛
– الحد من مصاريف تدبير الإدارة العمومية؛
– تفويت القطاعات اقتصادية للخواص .
وحاليا، ترى العديد من الدراسات العلمية أن الإدارة العمومية أصبحت مدعوة لممارسة ثلاث مهام إستراتيجية؛
– التناسبية: أي نقل الاختصاصات للمؤسسات المؤهلة لممارستها بشكل فعال نظرا لقربها من المواطنين، وأن الإدارة لا تتدخل في حالة عجز هذه المؤسسة عن القيام بها (تشجيع اللامركزية واللاتمركز).
– التقنين: الإدارة العمومية لا تتدخل بتاتا كفاعل في الحقل الاقتصادي، لكن كحكم يحدد قواعد اللعب، ويضع القوانين اللازمة لضمان منافسة شريفة وحد أدنى من الخدمات لفائدة كل المواطنين.
– التضامن الاجتماعي: إن من المهام الأساسية للإدارة ضمان حد من الفوارق الاجتماعية ومحاربة مظاهر الفقر المادي والإنساني بكل تشعباته .
إلا أنه في إطار سياسات تدبير الأزمة عبر ما سمي بالإصلاح الاقتصادي المعتمد في بلادنا منذ بداية عقد الثمانينات، بدأت حركة تحول عميق في طبيعة نمط الإنتاج المسيطر الذي تقوده الدولة.
وقد تمثل ذلك التحول للإدارة العمومية والقطاع العام، لصالح القطاع الخاص الوطني والأجنبي المستند على قواعد الربح وآليات السوق، والذي بدأت سيطرته تتوسع إلى سائر التشكيلات الاجتماعية الأخرى للإنتاج والتوظيف .
وعليه، فقد تم إلغاء المقتضيات المتعلقة بقانون المغربة بهدف دعم وإنعاش الاستثمار الأجنبي بالمغرب.
فالاستثمار الأجنبي المباشر،أصبح الموظف في شكل مساهمات مع الرأسمال الوطني في مقاولات ومؤسسات ذات الاقتصاد المختلط الذي يحظى بالاهتمام والعناية. إلا أنه عمليا تبدو النتائج في حالة انتظار وترقب، إذ نصت مدونات وقوانين الاستثمار القطاعية على مجموعة من المزايا والحوافز الجبائية والمالية. غير أنها لم تثر انتباه أصحاب الرأسمال الخاص لاستمالتهم وحملهم على توظيف رؤوس أموالهم، وتنميتها في أنشطة اقتصادية بالبلاد.
وفي تقدير الرأسمال الخاص، تكمن المعوقات الموضوعية في بطء الإجراءات الإدارية الناجمة عن التسيير البيروقراطي، وفي محدودية الضمانات القانونية الواضحة ونجاعة الجهاز القضائي،علاوة على ضيق الآفاق الواعدة والمغرية لنمو الأسواق.
فالإدارات العمومية مدعوة إلى إعادة النظر في بنياتها المؤسساتية لتأطير مقاولاتها وفق مقاربة إستراتيجية، مع تركيز خاص على تطوير وسائل جديدة لتقديم الخدمات، والاستثمار داخل شبكات المقاولات، مع إرساء علاقات جديدة من الثقة بين المقاولات الصغرى والمتوسطة، وبين المؤسسات البنكية والمالية، وتحديد جد دقيق للقيمة المضافة التي يتعين على الإدارات العمومية تقديمها للمقاولات.
ومن أجل تطوير أداة الاقتصاد الوطني يتحتم على الإدارات الوطنية أكثر من أي وقت مضى، خلق مناخ مواتي للاستثمار، وأن تجعل من الذكاء الاقتصادي لصالح المقاولاتية نقطة الإرتكاز لسياستها .
المبحث الثاني: الأسباب الخارجية لأزمة التوظيف
بالإضافة إلى الأسباب الداخلية،التي عانى منها المغرب، و التي أثرت عليه اقتصاديا واجتماعيا، كانت للأسباب الخارجية أثرها هي الأخرى في ظهور وتفاقم الوضع.سواء منها المديونية الخارجية(المطلب الأول)، أو سياسة التقويم الهيكلي (المطلب الثاني)، وخفض عجز الميزانية (المطلب الثالث)، التي تعتبر إملاءات من صندوق النقد الدولي.
المطلب الأول: عامل المديونية الخارجية
إن الأزمة المالية هي أزمة عالمية، تشمل على الخصوص المجالين الاقتصادي والمالي، وتمس المكونات الأساسية للاقتصاد العالمي. وبما أنها لا تكتسي نفس الدلالة بالنسبة لدول الشمال وكذلك بالنسبة لدول الجنوب، فهي هنا أزمة تحولات، وهي هناك أزمة انكماش وتقهقر، في تجانسه وتنافره، ويستعمل المصطلح بشكل واسع لحد الآن، كوسيلة لامتصاص وتجاوز الأزمة من طرف البلدان المصنعة .
أزمة مالية، أزمة ديون خارجية ، أزمة سيولة نقدية. هذه هي الملامح الأساسية للظاهرة التي تشغل اليوم بال المؤسسات المالية العالمية الكبرى. بحيث تحتل هذه الأزمة المالية الصدارة في عناوين المال والسياسة، وفي العلاقات بين دول الشمال والجنوب.
وهي أيضا الملامح الأساسية للظاهرة التي فرضتها المؤسسات الدولية المعنية بتنظيم العلاقات الاقتصادية، المالية والنقدية بين المجموعتين: مجموعة دول الشمال من جهة، ومجموعة دول الجنوب من جهة أخرى .
إن اللجوء إلى الأموال الأجنبية من المعطيات الثابتة لدول العالم الثالث، وحتى في عملية الاقتراض، فالقطاع العمومي هو القادر على الحصول عليها سواء في إطار التعاون الثنائي، أو المتعدد الأطراف، أو في الأسواق الدولية .
وعليه، تعتبر المديونية من أخطر المشاكل التي تعاني منها كافة دول العالم الثالث، وهي نتاج للتغيرات الدولية التي عرفها العالم المعاصر حيث تبسط الشركات العالمية والأبناك الدولية سيطرتها على الاستثمار، والتبادل الدولي، وتفرض على الدول المتخلفة تبعية اقتصادية ومالية للدول الكبرى .
والجدير بالذكر، أن معظم الأخصائيين يؤكدون – بخصوص استخدام الديون – أنه نظريا، بجب أن تمول القروض الخارجية المشاريع الاستثمارية، أو أن تلبي الحاجيات المستعملة من العملة الصعبة . لكن العكس هو الذي وقع، حيث إن المشكل الذي طرح لا يتعلق بالديون في حد ذاتها، وإنما بطريقة تدبيرها واستعمالها، وخصوصا بالنسبة للإقتراض من السوق المالية الدولية التي لم تكن تفرض شروطا معينة بخصوص توظيف تلك القروض . حيث وظفت تلك الأموال لإغراض أخرى نذكر منها: تمويل مشاريع غير منتجة وقليلة المردودية أو غير نافعة، تحديث الأجهزة الأمنية والعسكرية، هجرة رؤوس الأموال باعتبارها أخطر أشكال التبذير .
وعلى غرار عدد كبير من الدول النامية، تعرض المغرب في بداية الثمانينات إلى أزمة مالية خطيرة، نجمت عنها اضطرابات في توازناته الداخلية والخارجية.
وترجع تلك الأزمة في أصلها إلى تدخل الدولة في القطاعات الإنتاجية، وما واجهها من صعوبة في التحكم في قطاع عمومي متنام. ولقد أصبح ذلك التدخل يشكل خطرا على المالية العمومية، التي باتت مطالبة بتعويض عجز المؤسسات العمومية لضمان توازنها المالي .
وباعتبار المغرب من دول العالم الثالث،والذي يشترك مع الدول العربية في سوء التدبير،لجأ إلى المديونية الخارجية بهدف حل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، بعد أن واجهته صعوبات مختلفة في مقدمتها ندرة الموارد المالية الضرورية لتمويل مشاريعه وأعماله وسائر نفقاته الجارية .
لقد شرع المغرب، قبيل البدء بتطبيق المخطط الخماسي 1981 – 1985 في إجراء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، في أفق تطبيق برنامج للضبط خلال الفترة الممتدة ما بين 1 يوليوز 1980 و 30 يونيو 1983 لتحقيق هدف مزدوج: إنعاش الاقتصاد من جهة، وإعادة التوازنات المالية الداخلية والخارجية .
إذن، مع بداية الثمانينات، لم يكن للمغرب خيار آخر من الأخذ بتوصيات المؤسسات المالية الدولية، بهدف إعادة جدولة ديونه، وترشيد التصرفات المالية والاقتصادية بالمغرب .
وعليه، فقد تجلت معادلة أزمة المديونية الخارجية في المؤشرات التالية:
أ – فمعدل المديونية انتقل من 53.1 % سنة 1980 إلى 84 % سنة 1981، وأكثر من 100 % في كل سنة من السنوات المتراوحة بين 1982 و 1986؛
ب- ومعامل المديونية قارب 30 % ابتداء من 1979، ووصل 40 % لكل من سنوات 1987 و 1982؛
ج – وعجز الميزانية تطور في شكل متوالية هندسية، حيث صعد من 516 مليون درهم سنة 1983 أي ما يعادل 2 % الناتج الداخلي الخام، إلى 11098 مليون درهم سنة 1981 أي 14.5 % من الناتج الداخلي الخام. وتجدر الإشارة إلى أنه يتم تمويل ذلك العجز، في حدود 72 % بواسطة الديون الخارجية؛
د – العجز الجاري لميزانية الأداءات وصل 9630 مليون درهم سنة 1981 و11437 مليون درهم سنة 1982، أي ما يعادل 12.2 % و 12.3 % من الناتج الداخلي الخام؛
هـ – التضخم ذو الرقمين الذي يمتص القدرة الشرائية للفئات العريضة من السكان ويحد من الادخار المحلي ويشجع المضاربات والتهرب الضريبي .
وهكذا، تميزت الوضعية الاقتصادية والمالية للمغرب بعجز قارب 12.5 % من الناتج الداخلي الخام، وبتوفير عمومي شبه سالب (6.4 % بالنسبة للناتج الداخلي الخام)، وبارتفاع المديونية من 2 مليار دولار سنة 1975، إلى ما يقرب 12 مليار دولار سنة 1983 .
وبالموازاة مع ذلك، تراكمت المديونية الداخلية العمومية المباشرة بسرعة فائقة، والجدول أسفله يوضح الأرقام الرسمية لتطور المديونية الداخلية للبلاد:
حجم المديونية الداخلية للمغرب (بملايين الدراهم) .
هكذا، نلاحظ تسارعا في وتيرة الديون الداخلية، التي لم تكن تتعدى 26.625 مليون درهم سنة 1985،إذ انتقلت إلى 11.903 مليون درهم سنة 1995، لتصل إلى 121.526 مليون درهم سنة 1997، تم لترتفع إلى 149.476 مليون درهم سنة 2000.
وبالمقارنة مع الناتج الداخلي الخام بالأسعار الجارية، ارتفعت نسبة المديونية من 20.6 % سنة 1985 إلى 35.9 سنة 1995، ثم إلى 38.17 % سنة 1997، لتصل إلى 42.20 % سنة 2000. وبدءا من سنة 1998 تجاوزت المديونية الخارجية العمومية المباشرة.
ومعنى هذا، أن حجم المديونية الداخلية العمومية المباشرة سنة 2000 فاق بلغة الاقتصاد المالي الحجم المقبول حسب المقاييس الدولية ب 12.20 نقطة من الناتج الداخلي الخام، أي ما يعادل 29 % من مستواها الحالي.
إن كل تلك المكونات وجب احتسابها ضمن المديونية الداخلية العمومية المباشرة، مما سيرفع حجمها الرسمي ما بين 25 % إلى 30 % في المعدل السنوي، وهكذا، فحجمها الحقيقي بلغ 190 مليار درهم على وجه التقريب سنة 2000 عوض 149 مليار درهم المصرح بها رسميا، أي ما يعادل 53.7 % من الناتج الداخلي الخام عوض 42.20 %المصرح به رسميا.
أما على مستوى هيكل تلك المديونية، فإن الأبناك تعتبر أهم مقترض للدولة بحيث ساهمت رسميا ب 41 % من حجم المديونية الداخلية العمومية المباشرة سنة 2000، بدل 38 % سنة 1999. ويبقى البنك الشعبي بمعية البنك التجاري والبنك المغربي للتجارة الخارجية أهم المتدخلين الماليين في المغرب .
المطلب الثاني: سياسة التقويم الهيكلي
مع بداية الثمانينات حاول المغرب انتهاج سياسة أو إستراتيجية التأقلم مع المتغيرات الدولية بطريقة فعالة حتى أواخر التسعينات، لكنه دخل في أزمة عدم الاستقرار في الميزانية العامة، وبالتالي تراجعت القوة التنافسية للاقتصاد وارتفعت بذلك معدلات البطالة، والديون العمومية .
إن الاقتصاد الوطني المنفتح على الخارج، لم ينج بدوره من العواقب الوخيمة للظرفية العالمية، والتي نتج عنها عجز في الميزانية وفي الحسابات الخارجية. ذلك العجز لم يتم احتواؤه إلا عن طريق الضغط على النفقات العمومية، وخاصة الاستثمارية منها، ونهج سياسة تقويمية على مستوى المالية العمومية والنقد، و القروض والمالية الخارجية .
وكان نتيجة ذلك، هو تصاعد المديونية الخارجية من 900 مليون دولار سنة 1972 إلى 12 مليار دولار 1983، أي بمعدل تزايد سنوي متوسط يفوق 130%.و قد ترتب عن اللجوء إلى السوق المالية الدولية فيما بين 1975و1981 تأثير مزدوج: فمن جهة، حصل تسارع كبير في مسلسل الاستدانة، إذ وصل المبلغ الإجمالي للقروض المقدمة من طرف الأبناك الدولية، إلى أكثر من 14 مليار درهم أي ما يعادل 60 % في المساهمات الخارجية الإجمالية خلال تلك الفترة. ومن جهة أخرى، حصل تحول في بنية الدين المغربي، مما جعل المغرب يصبح تحت ضغوط أكثر تنوعا وقوة. وقد صاحب تلك الظاهرة تدهور كبير في شروط الاستدانة كان من نتائجها ارتفاع نفقات الدين (ارتفاع معدل فائدة السوق – ارتفاع الدولار الأمريكي – تقليص الآماد المتوسطة للقروض…) .
وإزاء تلك الوضعية المالية الصعبة، التي تبلورت من خلال تحمل خدمة الدين والعجز الجاري للتجارة الخارجية، وكذا عجز ميزانية الدولة، كان المغرب قد تفاوض مع صندوق النقد الدولي حول اتفاقيتين تخولان له تسهيلات واسعة. فالاتفاقية الأولى أبرمت بتاريخ 8 أكتوبر 1980 لمدة أولية في حدود ثلاث سنوات بمبلغ 810 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة، تم استعمال منها 147 مليون. أما الثانية، فيبلغ مقدارها 817.05 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة، منها 135 مليون وضعت رهن إشارة المملكة المغربية.
ومع ذلك فقد ألغيت هاتان الاتفاقيتان بعد حدوث خلاف بين الطرفين حول مضمون ومدة تطبيق تدابير ذلك التقويم. وقد فسر خبراء الصندوق الدولي فيما بعد، سبب تأجيل سياسة التقويم -و منها تلك الخاصة بالمغرب-، على أنها وضعت البلدان النامية في وضعية صعبة، وأن سياسة التصحيح التي يقترحونها إن لم تعط نتائج مرضية، فذلك راجع لتأجيلها وليس لطبيعتها .
وعليه، اتجهت سياسة التقويم الهيكلي نحو استرجاع التوازنات الماكرو اقتصادية، عبر التحكم في الطلب الداخلي، والرفع من مستوى تعبئة التوفير المحلي وترشيد تخصيص الموارد.ولقد واكبت التقويم المالي مجموعة من الإصلاحات الهيكلية، التي من شأنها أن تجعل الاقتصاد الوطني يسير في طريق النمو السريع والمستديم .
لقد دشن تطبيق برنامج التقويم الهيكلي إدخال إصلاحات جوهرية على نموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إصلاحات انكبت خاصة على إعادة هيكلة القطاع العام وفقا لتوجهتين: الحد من تواجد الدولة في النشاط الاقتصادي (القليل من الدولة)، وإصلاح نظام التحفيز الذي ارتكز على إصدار ميثاق جديد للاستثمار .
وعلى ضوء النتائج الأولى المسجلة، يمكن إصدار حكم عام حول سياسة الإنعاش والإصلاح، المستوحاة من توصيات صندوق النقد الدولي، وذلك على مستويين:
– إن الإنعاش الاقتصادي لسنة 1983 لم يحقق بعد نسبة النمو (+0.6 %)، و تلك النتيجة السيئة تفسر جزئيا بالانخفاض في القيمة المضافة للفلاحة ب (-6 %)، والأشغال العمومـــية بــــــ (-10). وهي قطاعات تترتب عنها بحكم ثقلها انعكاسات هامة على باقي القطاعات الاقتصادية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن نقص نفقات التجهيز، قد أثر على تطور الناتج الخام للرأسمال الثابت الذي يحدد المجهود الاستثماري على الصعيد الوطني. لأن ضعف النتائج المحصل عليها، تسمح بالاعتقاد بأن البرنامج الذي يجري تطبيقه حاليا قد انطلق بشكل لا يبشر بخير .
أما على مستوى التصحيح والعودة إلى التوازنات الكبرى، فقد تم تحقيق بعض النتائج، إذ تم تقليص للميزانية إلى 8 ملايير درهم سنة 1983 مقابل 11 مليار درهم سنة 1982. أي 8.4 % من الناتج الداخلي الخام، أما العجز المتوقع بالنسبة لسنة 1984 فوصل إلى 7.6 ملايير درهم.
وقد لعب التمويل النقدي دورا أكثر أهمية في تغطية ذلك العجز: فقد انتقلت القروض المقدمة من طرف بنك المغرب للخزينة من 1.3 مليار درهم سنة 1982، إلى أكثر من 2.5 ملايير درهم سنة 1983، وذلك لتغطية الضعف المسجل في تقدم المداخيل العادية (+3)% وانخفاض المساعدات الخارجية (4.6 ملايير درهم سنة 1983 و 7.6ملايير سنة 1982) .
وخلاصة القول،أنه يبدو من خلال ذلك التقويم الأولي لتطبيق البرنامج، أن المنطق التوازني أي المالي، يتغلب على منطق التنمية. كما أن العديد من الإصلاحات الهيكلية المعلنة بقيت تنتظر أن ترى النور:.إصلاح النظام البنكي، إصلاح النظام الضريبي،إصلاح المؤسسات العمومية الخ… .
المطلب الثالث: الخفض من عجز الميزانية
ارتهنت الوظيفة العمومية إبتداء من سنة 1980 بالاقتصاد، وبالأخص بالمالية.لأن الأزمة الاقتصادية المالية أملت على الدولة تخفيض وعقلنة الوسائل المتخذة داخل المجتمع. تلك العقلنة تظهر في الاقتصاد. والمغرب استعمل إدارة الدولة بصفة عامة، وبالأخص الوظيفة العمومية مثل حقل لتجريب سياسته التقشقية .
ومما لا شك فيه، أن تزايد حجم تدخل الدولة واتساع الوظائف التي تقوم بها، كان من نتائجه المباشرة تزايد أعداد العاملين بالقطاع العمومي. وبالنظر للمعطيات المتوفرة، يتبين بالفعل أن الوظيفة العمومية بلغت حجما يتطلب معه اعتمادات مالية ضخمة. و بالتالي أصبحت الدولة تعاني من صعوبات كبيرة في ظل التوجهات الجديدة، الداعية إلى تراجعها في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وتقليص القطاع العام إلى ما هو ضروري ولازم، مع ما يتناسب ووظائف الدولة التقليدية .
إذن، تشغل الإدارة المغربية ما يقرب 550.000 موظفا من مجموع 1.000.00يعملون في القطاع العمومي (تقديرات سنة 1996). بنسبة 9.7 % من السكان النشيطين، أي موظف واحد لكل 49 نسمة . و 2.3 % من مجموع ساكنة البلاد . في حين يشكل الموظفون العموميون في تركيا 2.6 % وفي تونس 3.7 % وفي الجزائر 4.2 % وفي مصر 6.2 % .
ومما يلفت النظر، التوزيع غير المتكافئ للموظفين، حيث أن 9 % منهم يعملون في المصالح المركزية.
وإذا ما استثنينا وزارة التربية الوطنية التي يعرف موظفوها انتشارا في جل نقط التراب الوطني، فإن تلك النسبة تصل في بعض الأحيان إلى 20 % من مجموع بعض الوزارات. كما أن 28 % من موظفي الدولة يوجدون في جهة الرباط – سلا وجهة الدار البيضاء الكبرى .
ويتوزع موظفوا الإدارة المغربية حسب السلالم، في الوقت الراهن، كالتالي:
– السلم 1 إلى 6: 50 %؛
– السلم 7 إلى 9: 28 %؛
– السلم 10 فأكثر: 22 % .
أضف إلى ذلك، أن الوظيفة العمومية إذا ما استمرت على هذا الوضع، ستصاب لا محالة بالشيخوخة، فحسب إحصاءات المجلس الوطني للشباب والمستقبل (1995)، فإن نسبة الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة كانت تبلغ 8.1 % سنة 1985، وتراجعت إلى 1.3 % سنة 1990 لتسجل ارتفاعا سنة 1995 إلى 2.2 %.
أما فئة الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و 34 سنة، وهي الفئة الأكبر حجما داخل الإدارة، فكانت في عام 1985 نسبتهم 53 % وتراجعت سنة 1990 إلى 41.6 % ثم إلى 27.3 % سنة 1995.
بينما سجلت فئة الأعمار بين 35 و 44 سنة زيادة من 23.5 % سنة 1985 إلى 36.9 % سنة 1990. و 46.6 % سنة 1995 لتصبح بذلك هي الفئة الأهم داخل الإدارة من حيث الحجم.
وتفسر التحولات في البنية البشرية للمؤسسات الإدارية في المغرب خلال السنوات العشر(1985 – 1995) إلى عوامل نوجزها فيما يلي:
تراجع مناصب التشغيل في ميزانية الدولة خلال تلك الفترة من عشرات آلاف منصب شغل إلى 12 ألف منصب عمل ، وذلك بالضغط على نفقات التوظيف بحذف 19000 منصب مالي (من أصل 44000 منصب مالي مقررة لسنة 1983) . و مع ذلك ارتفع العدد الإجمالي لموظفي الإدارة من 313 ألف سنة 1985 ليتجاوز في سنة 1990 عددهم 346 ألف.أما سنة 1995 فقد بلغ عدد الموظفين 407.139 .
ولقد ترتب على نمو أعداد الموظفين تزايدا في بند الأجور والمرتبات داخل الميزانية العامة للدولة، وأصبح الإنفاق العمومي يمتص نسبة مهمة من الإنفاق العمومي الجاري. كما ترتب على ذلك ارتفاع للأجور المدفوعة لموظفي الدولة، مما شكل إطارا رئيسيا في توزيع الدخل الوطني.و الجدول اسفله يبين كتلة اجور الموظفين ضمن الانفاق العمومي .
حصة مرتبات الموظفين ضمن الإنفاق العمومي وضمن الإنفاق الجاري 1958 – 1986 بالمليون درهم وبالنسب المئوية .
فمن خلال الجدول، يتضح لنا الارتفاع في مجموع الإنفاق العمومي وذلك ابتداء من سنة 1960 إلى غاية 1986. بالمقابل، نلاحظ ارتفاع في الإنفاق الجاري، إذ تضاعفت النسبة ب 13 مرة ما بين سنة 1960 و 1986. وتلك النسبة توضح لنا حجم الإنفاق والكتلة النقدية التي تتحملها الدولة كمصاريف تدفعها للموظفين.
أما نسبة مرتبات الموظفين في مجموع الإنفاق العمومي فقد تضاعفت مرتين منذ 1960 إلى 1986، إذ كانت في سنة 1960 نسبتها 14.1 لتصل 32.30 في سنة 1986.
جدول يبين بعض متغيرات المالية العمومية ومؤشرات حول كتلة الأجور
أما ما بين سنة 1988 و 1996، فإن كثلة الأجور التي تدفعها الدولة، تقدر ب 38.49 % من مجموع النفقات العامة + القروض – التسديدات، و 50.86 % من النفقات الجارية، و 10.74 % من الناتج الداخلي الخام و 39.26 % من المداخيل الإجمالية.
وقد أفضى ذلك الوضع، إلى دخول البلاد غمار أزمة بنيوية، تمثلت في مجموعة من الإختلالات في الميزانية، وميزان الأداءات نتيجة للتمويل بالعجز الذي لم يحل دون سد الثغرات الخاصة إلى التمويل الخارجي، مما أفضى إلى تفاقم أزمة المديونية التي وصلت سنة 1988 إلى حوالي 10 مليار دولار .
وأمام ضغط عجز الميزانية العامة، وندرة مواردها المالية، تراجع دور الدولة في تعيين الخريجين الجدد وتم تجميد التوظيف، وذلك باعتماد سياسة التقويم الهيكلي من طرف المغرب، بتوجيه من المؤسسات المالية الدولية.
جدول تطور عجز الميزانية العامة في المغرب 1964 – 1998 بالمليون درهم
لقد تراوح عجز الميزانية خلال سنوات 1984 / 1990 ما بين 7 و 10 ملايير درهم، مع عجز هام في سنة 1986 (13 مليار درهم). وتم التقليص في الميزانية على حساب إنجاز برامج التجهيز، التي انخفضت في سنة واحدة (1984) بحوالي 336 % بالأسعار الجارية بالمقارنة مع سنة 1983، وعلى حساب تقليص الإعانات. وقد تمت تغطية معظم ذلك العجزالى غاية 1985 عبر مصادر التمويل الأجنبية .
خاتمة :
لم يكن من السهل و المتيسر التصدي للخصاص الكمي للموظفين اثر حصول المغرب على استقلاله، وعودة الأجانب إلى بلدانهم . فالسياسات المتبعة من قبل الاستعمار لم تكن لتهيئ الأطر المغربية على تحمل المسؤوليات التي سبق ذكرها . والمتمثلة أساسا في :
– استئثار الأجانب بأعلى المناصب، واقتصار المغاربة على الوظائف الثانوية –وظائف التنفيذ-؛
– ان التكوين التقني كان حكرا على الأجانب، وذلك من اجل التحكم في الإنتاج ؛
– ان وظائف السلط المخزنية العليا كانت تمنح للأعيان الموالين للمستعمر.
وأمام تلك الوضعية، لجأت السلطات المغربية إلى عدة إجراءات انتقالية من أجل سد الفراغ الحاصل من فراغ الموظفين اثر حصول المغرب على استقلاله ، وتمحورت حول اللجوء إلى المساعدة التقنية الأجنبية، ومنح مناصب مالية إلى العناصر الوطنية رغم نقص تكوينها. ففي تلك المرحلة، لم يستطع المغرب الاستغناء كلية عن خدمات الموظفين الفرنسيين خاصة منهم الأطر العليا ذات التكوين الإداري والتقني الرفيع. لذلك لجأت إلى اجرائين هما :
1- اللجوء إلى العناصر الأجنبية ، وقد تمت تلك الاستعانة من خلال :
– الإبقاء على بعض الموظفين الأجانب في أسلاك الإدارة لتأطير العناصر الوطنية وتسيير المصالح الإدارية والتقنية، التي لا يملك المغاربة فيها التخصص والكفاءة ؛
– اللجوء إلى تقنية العقود الإدارية المبرمة مع الأجانب، في إطار الاتفاقيات المتعلقة بالمساعدة التقنية، وتكون لفترة محددة وعمل محدد.
2- الاعتماد على العناصر الوطنية، وذلك من خلال:
– اللجوء إلى أشكال وإجراءات تنظيمية تمكنها من استيعاب اكبر عدد ممكن من الطاقات الفاعلة لسد الفراغ ، ومنها رسالة الالتزام ، ثم عقود الحق العام ؛
– إصدار عدد كبير من النصوص التنظيمية الانتقالية التي تمكن المغاربة من جهة ولوج أسلاك الوظيفة العمومية، رغم عدم توفرهم على الشروط النظامية اللازمة لذلك، خاصة فيما يتعلق بالمؤهلات العلمية؛
إن الملاحظة الأساسية التي خلصنا إليها بخصوص تلك الفترة، أنها تمكنت بالفعل من سد حاجياتها من الأطر ، لكن على حساب الكفاءة و الخبرة لتسيير إدارة الدولة بالفعالية المطلوبة . ومن تم، نلاحظ الخلل والقصور في الإدارة، حيث ظهرت بعض الاختلالات نذكر منها :
– تزايد أعداد الموظفين ، اذ كان التوظيف كميا وليس نوعيا؛
– نقص الكفاءة والمردودية داخل الإدارة، نظرا لانعدام المؤهلات العلمية لدى الموظفين.
إذن، جعلت الحكومة منذ الستينيات من التوظيف احد اهتماماتها، مما جعلها تتخذ مجموعة من التدابير لاستيعاب أزمة البطالة. ومن أهم تلك التدابير هو تكثيف التوظيف المباشر من طرف الإدارات العمومية، حيث تمكنت بالفعل منذ السبعينيات من خلق آلاف من المناصب المالية. لكن شروع المغرب في خوض مسلسل التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية في شأن إعادة جدولة ديونه، جعله يتراجع عن التوظيف، بسبب عدة عوامل داخلية وخارجية.
إن التفكير في ولوج مختلف أسلاك الوظيفة العمومية ، أصبح امرا صعبا نسبيا. لأن الإدارة المغربية لن تستطيع امتصاص بطالة خريجي الجامعات والمعاهد ذلك لعدة عوامل منها:
– تراجع الإدارة العمومية عن سياسة التوظيف في إطار الخدمة المدنية، ووقف التوظيف المباشر في القطاع العمومي ؛
– ضعف الاستثمار، نتيجة لانخفاض معدل الاذخار الوطني.
(محاماه نت)