دراسات قانونية

بحث ودراسة قانونية حول أنواع وشروط شهادة الشهود – دراسة مقارنة

فلاس خالد

طالب باحث مسلك ماستر القانون المدني بجامعة إبن زهر أكادير.

مقدمة:

لعبت شهادة الشهود الدور الأول في مجال الإثبات في المجتمعات البدائية قبل أن تتطور عبر العصور، فهي الدليل الوحيد المعروف في المجتمعات البدائية لعدم معرفة الكتابة، كما عرفها القانون الروماني خاصة في عهد الإمبراطور ” جستنيان، justinien”، حيث كانت تسود القاعدة التي تقضي بتفوق الشهادة على الكتابة، إلا انه مع بداية التعليم وازدياد التعامل وفساد الأخلاق وكثرة شهود الزور، بدأت الشهادة تفقد مكانتها فحلت محلها القاعدة القائلة بتفضيل الكتابة على الشهادة، وذلك بصدور قانون “مولان MOULIN ” سنة 1566، إذ نص صراحة على منع إثبات ما يجاوز الكتابة بواسطة الشهود.
وتلعب شهادة الشهود دورا معتبرا رغم فقدانها لمكانتها في المواد المدنية، أما في المواد الجنائية فان الجرائم تقع صدفة وتكون من قبيل الأفعال المادية التي لا يمكن أن يعد لها الدليل مسبقا.
وقد اهتم العديد من الفقهاء بموضوع الشهود ومن بينهم “بينتام” المعروف بمقولته ” الشهود هم أعين العدالة وأذانها”، حيث يبحث القاضي عندما يعرض عليه النزاع أولا في مدى إمكانية إثبات الواقعة المتنازع عليها عن طريق شهادة الشهود، ثم إذا تيقن من ذلك يقبل الطلب ويحدد الواقعة المراد إثباتها تحديدا دقيقا، ويبين في الحكم العناصر التي يريد التحقيق فيها بواسطة الشهود، ثم يتأكد من مدى توفر الشروط المطلوبة قانونا في الشاهد، حيث إذا توفرت فيه تم الاستماع إلى شهادته طبقا للأوضاع المقررة قانونا.

ويلاحظ أن العمل بشهادة الشهود قد تدحرج مرتبة أمام الإثبات بالكتابة في المواد المدنية، نظرا للتقدم العلمي، وبالتالي فهذا الطريق من الإثبات يحتل المرتبة الأولى في المواد الجنائية، وتستوجب هذه الأهمية الاعتناء كثيرا بشخص الشاهد، فبعض الدول المتقدمة كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أصبحتا تنظران إلى الشهادة كعلم، إذ أن الشهادة يؤديها إنسان يمكن أن تكون شهادته عرضة للأخطاء قد تكون غير إرادية كالنسيان وضعف الذاكرة ووفاة الشاهد، وقد تكون إرادية من فعل الإنسان، إذ يمكن أن يتعمد الشاهد في تغيير الحقيقة ويشهد زورا لمصلحة احد أطراف الدعوى أو ضده وبالتالي نكون أمام جريمة شهادة زور.
وعلى هذا الأساس ، فما هي أنواع شهادة الشهود؟، وما هي الشروط الواجب توافرها في كل من الشاهد والشهادة لكي يعتد بها القضاء ويطمئن إليها كوسيلة إثبات؟
وعلى ضوء هذه التساؤلات المطروحة فإننا سنعالجها وفق منهج تحليلي وصفي مقارن

وذلك من خلال التصميم التالي:

المطلب الأول: أنواع شهادة الشهود.
المطلب الثاني: الشروط الواجب توافرها لصحة شهادة الشهود.

المطلب الأول: أنواع شهادة الشهود.

هناك عدة أنواع من شهادة الشهود، فالقاعدة العامة تقضي بان تكون الشهادة شفويا، لكن استثناءا يمكن أن تكون في شكل مكتوب، كما قد تكون الشهادة كذلك مباشرة أو غير مباشرة، وأخيرا هناك نوع أخر لا يقل أهمية عن النوعين السابقين وهو الشهادة بالتسامع والشهادة بالشهرة العامة.

الفقرة الأولى : الشهادة الشفوية والشهادة المكتوبة.

إن الأصل في الشهادة أن تكون شفويا يدلي بها الشاهد أمام القضاء مستمدا إياها من ذاكرته، وقد نص الفصل 81 من قانون المسطرة المدنية على انه :” يجب أن يؤدي الشاهد شهادته شفاهيا ولا يمكن له أن يستعين بمذكرات إلا بصفة استثنائية وبعد إذن المحكمة له بذلك”، كما نصت المادة 216 من تقنين المرافعات المصري على انه:” تؤدى الشهادة شفاها ولا تجوز الاستعانة بمفكرات مكتوبة إلا بإذن المحكمة أو القاضي المنتدب وحيث تسوغ ذلك طبيعة الدعوى”، كما نصت المادة 205 منه على أن ” من لا قدرة له على الكلام، يؤدي الشهادة إذا أمكن أن يبين مراده، بالكتابة آو بالإشارة”.
ومبدأ الشفوية هو شرط لشهادة الشهود، لكن تناول بعض الفقهاء مسالة الشهادة المكتوبة.
فالشهادة المكتوبة تعتبر هي الأخرى نوعا من أنواع الشهادة، وصورة غير تقليدية لإحاطة المحكمة علما بأقوال الغير، حيث في بداية الأمر كانت المحاكم الفرنسية تأخذ بها على سبيل الاستدلال بها، ثم تطورت المحاكم بعد ذلك لتأخذ بها كقرائن في الدعوى متروكة لفطنة القاضي وذكاءه، وقد قضت محكمة النقض الفرنسية في قرار لها بأنه:” يعد مخالفة لنصوص القانون رفض محكمة الموضوع الاعتداد بمستندات متضمنة أقوال الغير لكون هذا الأخير لم يتم سماعه في نطاق التحقيق”[1]، كما قضت في قرار أخر صراحة بقيمة هذه الشهادات المكتوبة في الإثبات، وأضافت إليها حجية الشهادة في نطاق التحقيق[2].
وقد كرس المشرع الفرنسي ما جرى به العمل في القضاء وذلك بإصدار مرسوم ينظم الشهادة المكتوبة وكافة المسائل المتعلقة بها[3].

ولقبول الشهادة المكتوبة لابد من توفر الأمور التالية:
– الإدلاء بواقعة معينة.
– أن يكون الاعتراف صادرا من الغير.
– العلم الشخصي بالواقعة.
– أن يكون الغرض من تحرير الشهادة هو تقديمها إلى القضاء.
وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتوفر في الشهادة القانونية مجموعة من الشروط منها ما هو خاص بمحرر الشهادة، ومنها ما هو خاص بشكل الشهادة وكذلك ما هو خاص بمضمون الشهادة.

فبالنسبة لمحرر الشهادة يجب أن تتوافر فيه الشروط العامة التي يجب أن تتوفر في الشاهد كالسن القانوني وانعدام القرابة.
اما فيما يخص شكل الشهادة، فيجب أن تكتب الأقوال وتوقع وتؤرخ بيد من حررها، كما يتوجب عليه أن يرفق الشهادة بوثائق ومستندات تبين هويته، ويكون عليها توقيع صادر منه، وذلك كله لكي يتحقق القاضي والخصوم من هوية محرر الشهادة المكتوبة.

أما بالنسبة لمضمون الشهادة المكتوبة فيجب أن تتضمن بيانات خاصة بالشخص محرر الشهادة، كذكر اسمه كاملا ومكان ميلاده ومهنته ومكان إقامته والوقائع التي يعلم بها شخصيا آو عاينها بنفسه، كما يجب عليه أن يذكر في الشهادة انه حررها بقصد تقديمها للعدالة، وان يضمنها أيضا بأنه يعلم في حالة ثبوت كذب شهادته انه سيتعرض لعقوبات زجرية المقررة قانونا لشاهد الزور[4].
ويرى البعض انه في حالة الشهادة المكتوبة نكون أمام كتابة خاصة، وان الشاهد لا يظهر أمام القضاء، فالشاهد دليل حي، أضف إلى ذلك أن حضور الشاهد يمكن أن يأتي بفائدة كبيرة وهي الحصول على معلومات جديدة كالإضافات والتفسيرات.[5]

وتجب الإشارة من الناحية العملية أن الشهادة المكتوبة نادرة الاستعمال، حتى وان توصل التقدم العلمي إلى تسجيل الشهادة بواسطة أجهزة تسجيل الأصوات والصور[6].
ويرى الأستاذ عبد الرزاق السنهوري انه يكفي في ظروف استثنائية تلاوة الشهادة المكتوبة للشاهد آو ضمها إلى ملف القضية للاعتداد بها، كما يحدث أن يضم ملف تحقيق جزائي إلى ملف قضية مدنية، ويعتد بما ورد مكتوبا في التحقيق الجزائي من شهادة شهود.

وإذا كان بعض الشراح يرون بان الشهادة المكتوبة لا قيمة قانونية لها أمام القضاء، لأنها لا تعدو أن تكون ألا مجرد تصريح لا يلزم إلا صاحبه[7]، غير أن البعض الآخر يرى بأنه يمكن في حالة استثنائية الاعتداد بالشهادة المكتوبة وذلك في حالة عدم استطاعة الشاهد الحضور أمام القضاء لأسباب جدية تمنعه من ذلك كالمرض مثلا والبعد الكثير عن المحكمة، ففي مثل هذه الحالات يمكن للقاضي المختص في النظر في الدعوى أن ينيب عنه من يتلقى الشهادة، ويكون المنيب قاضيا أخر يعمل بالدائرة القضائية نفسها التي يوجد أو يقيم بها الشاهد المطلوب منه الإدلاء بشهادته كتابة[8] .
أما المشرع المغربي فانه قد حسم في هذه المسالة وذلك بصريح الفصل 78 من قانون المسطرة المدنية الذي جاء فيه:” إذا اثبت الشاهد انه يستحيل عليه الحضور في اليوم المحدد، جاز للمحكمة منحه أجلا آو الانتقال بنفسها قصد تلقي شهادته”.

الفقرة الثانية : الشهادة المباشرة والشهادة غير المباشرة.

الأصل في الشهادة أن تكون مباشرة، حيث يخبر الشاهد بما وقع تحت سمعه آو بصره، وقد يخبر بما رأى بعينه كواقعة تسليم مبلغ مالي، آو مشاهدته لحادث معين، ا وان يخبر بما سمعه بأذنه كما إذا كان قد حضر مجلس العقد وسمع البائع يتعاقد مع المشتري وحضر أمام القضاء ليشهد بما رآه آو سمعه.[9]
والأصل في الشهادة المباشرة أن تكون شفوية، حيث يدلي الشاهد بشهادته دون الاستعانة بأية مذكرة، وان كان المشرع المغربي والمشرع المصري يجيزان للشاهد الاستعانة بمذكرات مكتوبة وذلك متوقف على ضرورة صدور إذن من المحكمة أو القاضي المنتدب[10].

أما الشهادة غير المباشرة آو ما يسمى لدى البعض بالشهادة من الدرجة الثانية، فهي تلك الشهادة التي يدلي بها الشاهد دون أن يتصل بالواقعة المتنازع عليها شخصيا، وإنما يردد فقط ما سمعه من الغير، فهي شهادة نقلت إليه فقط عن طريق الغير.
أما عن قيمة الشهادة غير المباشرة فهناك من يرى بأنها تجوز حيث تجوز الشهادة الأصلية، ولكن يبقى أمر تقديرها للقاضي لمعرفة قيمتها في الإثبات.[11]

ويرى احد الفقهاء الفرنسيين انه يجب لكي تكون الشهادة غير المباشرة صحيحة أن تتوفر فيها الشروط التالية:
1- أن يكون الشاهد المباشر للواقعة محل الإثبات غير قادر جسديا أن يؤدي الشهادة كان يكون ميتا أو غائبا.
2- أن يكون الشاهد المباشر قد وكل احد الأشخاص في أداء الشهادة وان تسند إليه تلك الشهادة.
3- أن تكون لدى الشخص الذي يؤدي الشهادة أهلية كاملة.
4- أن يؤدي هذه الشهادة رجلان.
5- ألا يكون الشاهد المباشر الذي شاهد الواقعة قد تراجع عما شهده.[12]

الفقرة الثالثة : الشهادة بالتسامع والشهادة بالشهرة العامة.

تعرف الشهادة بالتسامع على أنها الشهادة بما يتسامعه الناس فيما بينهم وبالرأي الشائع لدى الجمهور عن الواقعة المراد إثباتها، فهي تقوم على ما سمعه الشاهد من شخص معين رأى الواقعة بعينه آو سمعها ويكون مسئولا عن صحة ما يشهد به[13]، اما الشهادة بالشهرة العامة فان الشاهد في هذا النوع من الشهادة لا يروي نقلا عن شخص مباشر يكون قد شهد الواقعة محل الإثبات، وإنما يروي ما يتداوله الناس على ألسنتهم وما هو شائع بينهم.
ومن المعمول به انه لا يجوز اللجوء إلى هذا النوع من الشهادة إلا في حالات استثنائية وحيث ينص القانون صراحة على قبولها.

وقد نص القانون المدني الفرنسي على قبول الشهادة بالتسامع في عدد من الحالات، كالحالة التي يهمل فيها الوصي تحرير جرد أموال القاصر إذ يخول لهذا الأخير عند بلوغه سن الرشد إثبات قيمة أمواله بجميع الوسائل، بما فيها الشهادة بالتسامع[14].
أما القانون اللبناني فقد نص في المادة 262 من قانون أصول المحاكمات على أن الشهادة على شيوع الخبر لا تقبل إلا في الأحوال التي ينص عليها القانون.
بينما في القانون المصري فان هذا النوع من الشهادة غير مقبول في المسائل المدنية، لكن لا يوجد مانع من الأخذ بها على سبيل الاستئناس فيما يجوز إثباته بالشهادة والقرائن.
أما في الفقه الإسلامي، فانه يؤخذ بالشهادة بالتسامع في كثير من المسائل كالزواج مثلا والوفاة والنسب والمهر.[15]

ويمكن استعمال الشهادة بالتسامع في الفقه المالكي لإثبات إنشاء الوقف والوصية وفسخ النكاح والملكية والحيازة، والوقائع التي تثبتها هي عادة وقائع قديمة ترجع إلى عشر آو عشرين سنة ولم يكن قد حضرها عدد كبير من الشهود، كما يجب أن تكون الواقعة خالية من أي مجال للشك.
ولعب هذا النوع من الشهادة دورا أساسيا في العصور القديمة، اذ عادة ما تكون الإشاعات آنذاك هي التي تؤدي إلى اتهام شخص بارتكاب جريمة غالبا ما تكون غير صحيحة، أما في العصور الوسطى أصبح هذا النوع من الشهادة معروفا ومستعملا خاصة لمعرفة العادات والتقاليد.

أما الشهادة بالشهرة العامة فهي لا تعتبر شهادة بالمعنى الصحيح، بل هي ورقة مكتوبة تحرر أمام جهة رسمية تدون فيها وقائع معينة يشهد فيها شهود يعرفون هذه الوقائع عن طريق الشهرة العامة[16]، فهي تفترض وجود موظف عام كموثق آو قاضي يدلي أمامهم الشهود بما لديهم من معلومات عن الواقعة المراد إثباتها، ويجب أن يكون للشهود معرفة شخصية بهذه الواقعة عن طريق الشهرة العامة.
وقد نص القانون المدني الفرنسي صراحة على جواز استعمال الشهادة بالشهرة العامة كدليل ثبوتي، فإذا تعذر على احد الزوجين مثلا عند إبرام عقد الزواج أن يحصل على شهادة الميلاد، أمكنه أن يقدم بدلا منها شهادة منظمة أمام القاضي، وذلك بناءا على تصريحات ثلاثة شهود يبينون اسمه ولقبه وحرفته ومحل إقامته وتاريخ ميلاده، كما تستعمل كذلك هذه الشهادة في حالة فقدان آو تلف سجلات الأحوال الشخصية لإثبات الزواج آو الولادة آو الوفاة.

وفي مصر تستعمل هذه الشهادة لإثبات الورثة وحصر التركة وغيبة المفقود، وذلك كله أمام جهات رسمية موكول لها قانونا القيام بهذه المهام.[17]

المطلب الثاني : الشروط الواجب توفرها لصحة شهادة الشهود.

يجب على القاضي قبل الاستماع إلى الشاهد أن يتأكد من توفر مجموعة من الشروط، منها ما هو خاص بالشاهد كتمتعه بالأهلية اللازمة والتأكد من عدم وجود علاقة قرابة آو مصاهرة مع احد الخصوم ( الفقرة الاولى)، ومنها ما هو خاص بالشهادة نفسها كوجوب أداء الشهادة أمام القضاء وأداء الشهادة بحضور الخصوم ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : الشروط الخاصة بالشاهد.

لم يعرف المشرع المغربي الشاهد على غرار اغلب التشريعات المقارنة، وان كان من وصف الشهود بأنهم أعين العدالة وأذانها، وللشاهد دور هام في مساعدة القضاء لإظهار الحقيقة في العديد من المنازعات، وقد جعل القانون أداء الشهادة واجبا على كل إنسان له علاقة بالواقعة المتنازع فيها أمام القضاء.[18]
ونظرا للعيوب التي يمكن أن تتخلل شهادة الشهود، وأخذا ببعض اقتراحات الفقهاء والشراح، فان غالبية التشريعات وضعت شروطا مسبقة يجب أن تتوفر في الشاهد لكي تصح شهادته ويتم الاعتماد عليها، وهذه الشروط تتمثل أساسا في شرط الأهلية، وشرط عدم القرابة آو المصاهرة.

1- شرط الأهلية.

تعتبر الأهلية شرط مشترك يجب أن تتوافر لدى كل شاهد، إذ يجب أن تكون لدى هذا الأخير قدرة على تذكر الواقعة التي سيشهد فيها، وألا يكون ذا عاهة أو فاقدا للتمييز والإدراك، لان فقدان الإدراك والتمييز يجعلان الشخص غير أهل لأداء الشهادة.
والأهلية نوعان: أهلية الوجوب وأهلية الأداء[19]، وتعني أهلية الوجوب “صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الواجبات التي يحددها القانون وهي ملازمة له طول حياته ولا يمكن حرمانه منها”[20]، أما أهلية الأداء فهي صلاحية الشخص لممارسة حقوقه الشخصية والمالية ونفاذ تصرفاته، ويحدد القانون شروط اكتسابها وأسباب نقصانها آو انعدامها”.[21]

ويرى غالبية الفقهاء وجوب توفر عنصرين لدى الشاهد، وهما الإدراك والتمييز، فالقدرة على التمييز هي أساس تحمل الشهادة لان التمييز يعني القدرة على فهم الفعل وتحديد طبيعته وما ينطوي عليه من اعتداء على حق آو مصلحة يحميها القانون.
وبالرجوع إلى الفصل 75 من قانون المسطرة المدنية في فقرته الثانية، نجده نص على:
” لا تقبل أيضا شهادة الأشخاص الذين نص القانون أو أمر قضائي بأنهم عديمو الأهلية[22] لتأدية الشهادة في كل الإجراءات وأمام القضاء”.
وبمفهوم المخالفة للمادة أعلاه، يستنتج انه تقبل شهادة ناقص الأهلية[23] أمام القضاء في كل الإجراءات ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك.

ومن خلال تحليل المادة 75 من المسطرة المدنية نستنتج مايلي:
– انه لا يجوز سماع شهادة الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز الذي هو 12 سنة شمسية كاملة.
– تسمع شهادة الصغير الذي بلغ سن التمييز ولم يبلغ سن الرشد الذي هو 18 سنة شمسية كاملة.
– يجوز سماع شهادة الأفراد الذين لم يبلغوا ست عشرة سنة على سبيل الاستئناس.[24]

– أما غير ذلك فانه يعتد بالشهادة كاملة وتعتبر صحيحة إذا بلغ الشخص سن الرشد ما لم يثبت حصول سبب من أسباب نقصان أهليته آو انعدامها.
وإذا كان بعض الفقه يرى بان العبرة بسن الشاهد وقت أداءه الشهادة أمام القضاء لا وقت حصول الواقعة التي يشهد عليها، فإننا لا نشاطره الرأي، إذ يجب أن تتوفر لدى الشاهد السن القانونية يوم حدوث الواقعة، وإلا سيحضر شخص في واقعة لما كان عمره 10 سنوات مثلا، ويشهد فيها لما يصل عمره 18 سنة.

2- شرط عدم القرابة والمصاهرة.

لم يترك المشرع المغربي أدنى شك في الموضوع، حيث نص الفصل 75 في فقرته الأولى على انه:” لا تقبل شهادة من كانت بينهم وبين الإطراف آو أزواجهم رابطة مباشرة من قرابة آو مصاهرة من الأصول آو الفروع آو الحواشي إلى الدرجة الثالثة بإدخال الغاية عدا إذا قرر القانون خلاف ذلك”.
ومن خلال الفصل أعلاه نستنتج أن من لا تجوز شهادتهم هم كالأتي:

ا- شهادة احد الزوجين.

تمتنع شهادة احد الزوجين للأخر للعلة ذاتها التي تمتنع بها شهادة الأصل للفرع آو عليه، وذلك خشية للمحاباة بسبب المصلحة المشتركة آو بسبب العامل العاطفي، آو ما قد يترتب عن ذلك من توتر العلاقة بين الزوجين في حالة ما إذا كانت الشهادة في غير مصلحة الزوج، كما أن حكم المنع يبقى قائما حتى بعد انحلال الرابطة الزوجية وذلك لعلة وجود أولاد مشتركين بينهما[25].

ب- شهادة الأصول آو الفروع آو الحواشي.

يرجع السبب في عدم الشهادة في مثل هذه الحالات إلى الشك الكبير في صدقها بسبب وجود مصلحة آو عاطفة آو الكراهية التي يمكن أحيانا أن تسود بين الأقارب، ومن ناحية أخرى يعتبر الامتناع عن أداء الشهادة آو الإدلاء على وجه غير مفيد للقريب قد يكون سببا للنفور والانشقاق بين أفراد العائلة وتشتت روابط القرابة.

ج- شهادة الخادم والوكيل والشريك والكفيل.

لم ينص المشرع المغربي على صراحة على مثل هذه الحالات، غير أن المعمول به قضاء انه لا تجوز شهادة الخادم لمخدومه مادام في خدمته، وذلك راجع للسلطة المباشرة التي تكون للمخدوم على خادمه، أما إذا ترك الخادم تلك الخدمة فتقبل شهادته مع مخدومه السابق، ما لم يكن ترك الخدمة بالتواطؤ معه فترفض شهادته.
كما تقبل شهادة الوكيل لموكله وذلك في حدود الأمور التي لها علاقة بالوكالة، والشيء نفسه بالنسبة للشريك فيما يتعلق بالشركة وذلك بسبب المصلحة المالية التي تجمعهما في الشركة.

وتمنع شهادة الكفيل فيما يخص التزامات المكفول، إذ تكون له مصلحة مباشرة في براءة ذمة هذا الأخير باعتبار أن براءة الأصيل بشهادة الكفيل تؤدي إلى تبرئة هذا الأخير أيضا من كفالة الدين وإسقاط هذه الكفالة.[26]

الفقرة الثانية : الشروط الخاصة بالشهادة.

يضاف إلى الشروط الواجب توفرها في الشاهد مؤدي الشهادة، شروطا أخرى يجب توفرها في الشهادة نفسها وهذه الشروط تتمثل أساسا في وجوب أداء الشهادة أمام القضاء، ثم شرط تأدية الشهادة بحضور الخصوم.

1- وجوب أداء الشهادة أمام القضاء.

يجب أن تصدر شهادة الشاهد أمام القاضي، أما الشهادة التي يمكن أن تؤدى خارج مجلس القضاء فلا يعتد بها ولو كان المجلس مجلس تحكيم[27]، بل ولو كان ذلك أمام موظف عمومي طالما ليست له ولاية القضاء.[28]
وقد ورد استثناء على القاعدة المذكورة والذي يتمثل في تعذر الشاهد عن الحضور أمام المحكمة لأسباب جدية كالمرض مثلا، فعندما يكون الشاهد مريضا ولا يستطيع بسبب مرضه أن يتنقل إلى المحكمة، جاز للمحكمة في حالة إذا كانت شهادته مهمة جدا ويتوقف عليها الحسم في الواقعة، أن تنتقل إليه بنفسها قصد تلقي شهادته.
وقد نص الفصل 78 من قانون المسطرة المدنية على انه:” إذا أتبث الشاهد انه يستحيل عليه الحضور في اليوم المحدد، جاز للمحكمة منحه أجلا آو الانتقال بنفسها قصد تلقي شهادته.

إذا كان الشاهد يقيم خارج دائرة اختصاص المحكمة، آمكن الاستماع إلى شهادته بواسطة إنابة قضائية”.
يفهم من نص الفصل أعلاه انه في حالة استحالة الحضور على الشاهد، فانه يجوز للمحكمة أن تحدد له أجلا أخر آو تنتقل لسماع شهادته إذا كان مقيما في نفس دائرة اختصاص المحكمة، أما إذا كان مقيما في دائرة اختصاص محكمة أخرى فهنا خول المشرع للمحكمة إمكانية إتباع إجراءات الإنابة القضائية.
أما إذا كان الشاهد يقيم خارج إقليم الدولة، فهنا يتعين رفع الآمر إلى وزارة العدل من اجل إحالته أمام السلطة المختصة للبلد الذي يقيم فيه.[29]

2- اداء الشهادة بحضور الخصوم.

نصت الفقرة الأولى من الفصل 76 من قانون المسطرة المدنية على انه:” يستمع إلى الشهود على انفراد سواء بمحضر الإطراف آو في غيبتهم”.
من خلال القراءة الأولى والبسيطة لهذه الفقرة من الفصل يمكن القول بان المشرع لم يعتبر أداء الشهادة بحضور الخصوم واجبا، ولكن – في نظرنا- هذا يتعارض مع نص الفصل 82 من نفس القانون الذي نص في الفقرة الأولى منه على انه:” لا يجوز للطرف أن يقاطع الشاهد أثناء إدلائه بها، آو أن يوجه إليه أسئلة مباشرة”، وعليه ندعو المشرع إلى إعادة صياغة الفقرة الأولى من الفصل 76 من قانون المسطرة المدنية بشكل يفهم منه انه يجب تأدية الشهادة بحضور الخصوم.

فهناك من يرى بان تأدية الشهادة دون حضور الخصوم يجعلها باطلة[30]، ذلك انه للخصم حق توجيه أسئلة للشاهد، فقانون الإثبات المصري نص في المادة 87 على ذلك[31]، وإذا كان احد الخصوم يعلم قانونا بتاريخ الجلسة المحدد لسماع الشاهد وتغيب يوم الجلسة رغم توصله بالاستدعاء، فانه لا يمكنه التمسك بان الشاهد سئل في غيبته، إلا إذا كان لغيابه عذرا مقبولا قانونا، وفي هذه الحالة يحق له إعادة سماع الشاهد.
وإذا انتهى الخصم من استجواب الشاهد، فانه لا يجوز له إبداء أسئلة جديدة إلا بإذن المحكمة، ويؤدي كل شاهد شهادته بانفراد دون حضور الشهود الآخرين.
ولما نقول عبارة ” بحضور الخصوم” فإننا نعني بذلك إما أطراف النزاع أنفسهم آو من يمثلهم.

الهوامش
[1] قرار مؤرخ سنة 1954.
[2] سحر عبد الستار امام يوسف ” دور القاضي في الاثبات دراسة مقارنة” رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق جامعة عين الشمس الجزائر سنة 2001. ص 295/296.
[3] مرسوم رقم 1122-73 المؤرخ في 17/12/1973.
[4] سحر ابو يوسف” مرجع سابق” ص 302 303.
[5] Henry levy bruhl « la preuve judiciaire etude de sociologie juridique paris. Librairie manuel riviere et cie.
Série A. auteurs contemporains. 1964 page 125/126.
[6] وعلى سبيل المثال فان المحكمة المدنية بفرنسا وافقت للزوج في دعوى الطلاق ان يستعمل كشهادة شهود اسطوانة تتضمن بعض التصريحات التي صرحت بها الزوجة والتي سجلها زوجها.
[7] يوسف دلاندة” الجيز في شهادة الشهود وفق احكام الشريعة الاسلامية والقانون وما استقر عليه قضاء المحكمة العليا”. دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع الجزائر. سنة 2005. ص 46.
[8] رضا المرغني ” احكام الاثبات” معهد الادارة العامة ادارة البحوث سنة الطبعة 1985. ص 276.
وقد نص قانون الاجراءات المدنية الجزائري في المادة 155 على انه: ” اذا اثبت الشاهد انه استحال عليه الحضور في اليوم المحدد جاز للقاضي ان يحدد له اجلا اخر او ينتقل لتلقي شهادته. اذا كان الشاهد مقيما خارج اختصاص الجهة القضائية جاز للقاضي اصدار انابة قضائية لتلقي شهادته”.
[9] نبيل ابراهيم سعد ” الاثبات في المواد لمدنية والتجارية” دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت. دون دكر سنة الطبعة ص 171.
[10] نبيل ابراهيم سعد مرجع سابق ص 171.
[11] يحيى بكوش” ادلة الاثبات في القانون المدني الجزائري والفقه الاسلامي” دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة الطبعة الثانية المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1988. ص 191.
[12] MARCEL DUCLOS. PRECIS ELEMENTAIRE DU DROIT MUSULMAN. MISE A JOUR AVEC LA JURISPRUDENCE LA PLUS RECENTE. ALGER ANCIENNE IMPREMERIE VICTOR HENTZ 1940 P 473.474 PARA.1026.
[13] ادوار عيد ” موسوعة اصول المحاكمات والاثبات والتنفيذ ( الجزء السادس عشر) الاثبات واليمين والشهادة. لبنان 1991. ص 174.
[14] ادوار عيد “مرجع سابق” ص 172.
[15] انور سلطان ” قواعد الاثبات في المواد المدنية والتجارية” دراسة في القانونين المصري واللبناني الدار الجامعية للطباعة والنشر بيروت 1984. ص 114.
[16] عبد الحميد الشواربي” الاثبات بشهادة الشهود في المواد المدنية والتجارية والجنائية والاحوال الشخصية. منشاة المعارف الاسكندرية. سنة 1996. ص 174.
[17] ادوار عيد ” مرجع سابق” ص 178.
وهناك من قال بانه لكي يعتد بشهادة الشهرة العامة يجب توفر الشروط التالية:
– ان تمضي على الواقعة مدة 20 سنة. ثم انعدام اية قرينة مخالفة، ان تؤدى هذه الشهادة من طرف رجلين دون النساء، ان يؤدي الشاهدان اليمين.
[18] ادوار عيد” مرجع سابق” ص 179.
[19] المادة 206 من مدونة الاسرة.
[20] المادة 207 من مدونة الاسرة.
[21] المادة 208 من مدونة الاسرة.
[22] نصت المادة 217 من مدونة الاسرة على مايلي: “يعتبر عديم اهلية الاداء:
اولا: الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز.
ثانيا: المجنون وفاقد العقل.
[23] ناقص الاهلية حسب المادة 213 من مدونة الاسرة هو الصغير الذي بلغ سن التمييز ولم يبلغ سن الرشد. ثم السفيه والمعتوه.
[24] انظر الفصل 76 من قانون المسطرة المدنية في فقرته الرابعة.
[25] ادوار عيد ” مرجع سابق” ص 191.
[26] ادوار عيد” مرجع سابق” ص 194.
[27] محمد عطية راغب” النظرية العامة للاثبات في التشريع الجنائي العربي المقارن” القاهرة مطبعة المعرفة 1960 ص 62.
[28] سايمان مرقس مرجع سابق ص 05.
[29] ابراهيم صالح” الاثبات بشهادة الشهود في القانون الجزائري دراسة مقارنة في المواد المدنية والجنائية” رسالة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون.جامعة مولود معمري تيزي وزو كلية الحقوق. 2012 ص 48.
[30] احمد نشات” رسالة الاثبات الجزء الاول اركان الاتباث عبء الاثبات طرق الاثبات الكتابة شهادة الشهود” الطبعة السابعة منقحة ومزيدة. دار الفكر العربي القاهرة سنة 1972. ص 549.
[31] نصت المادة 87 من قانون الاثبات المصري على ما يلي:” يكون توجيه الاسئلة الى الشاهد من المحكمة او من القاضي المنتدب ويجيب الشاهد عن اشئلة الخصم الذي استشهد به ثم عن اسئلة الخصم الاخر دون ان يقطع احد الخصوم كلام الاخر او كلام الشاهد وقت اداء الشهادة”.

إغلاق