سلايد 1منوعات

الذكاء الاصطناعي والعدالة … الواقع والمأمول

بقلم : الدكتورة سعاد ياسين - نائب رئيس جمعية المحامين البحرينية ورئيس مركز الياسين للتدريب

مقدمة:

   لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد حلم يراود البعض أو ضرب من ضروب الخيال العلمي بل أضحي حقيقة واقعة تحظي بتطبيقات عدة تحاكي الذكاء البشري بل وتتفوق عليه احياناً ،  وباتت استعمالات الذكاء الاصطناعي تعرف تزايداً هائلاً نظراً لما توفره من فرص كبيرة وواعدة خصوصاً فى قدرتها على التعلم الآلى وكفاءتها العالية في استعمالات تنبهت لها العديد من المؤسسات والحكومات ما دفعها للعمل من أجل الانتفاع من مزاياها قد المستطاع ، لذا دخلت جميع المجالات ومنها المجال الطبى باستخدام نظم تحليل البيانات والنتائج الطبية لغايات التشخيص المبكر لبعض الأمراض واقتراح العلاجات المناسبة, بل وعمدت بعض المستشفيات العالمية الى استخدام الروبوتات فى العمليات الجراحية وغير ذلك, وعلى الصعيد التعليمي  ظهر الربوت المعلم والمساقات التعليمية الذكية ،بل ظهر استخدامها جلياً فى المجال العسكري بادخال معدات الذكاء الاصطناعي والحرب الالكترونية وخدمات الاستشعار عن بعد والتنبؤ بالاخطار العسكرية ومواجهتها  ، واستخدام الطائرت المسيره وغيرها .

   ولم يقتصر الأمر على تلك المجالات بل غزت تلك التكنولوجيا مجال النقل , ومجالات الاقتصاد والتجارة الالكترونية ، ولعل ما يميزها هو قدرتها على التعلم واكتساب الخبرة واتخاذ القرار باستقلالية دون الاشراف البشري وتمتعها بمهارات التسبيب والاستنباط والتكيف مع البيئة المحيطة ، ومن هنا لعبت دوراً حيوياً فى تسريع الأنجاز وزيادة الانتاج، حتى باتت هناك استراتيجيات تتبناها الدول للتحول للذكاء الاصطناعي  واستثمار طاقاتها على النحو الأمثل .

   بيد أن  ما يشغلنا فى هذا المقام هو استخدامات لتلك التكنولوجيا العالية فى مجال تحقيق العدالة ،حيث دفعت ظروف أنتشار جائحة كورونا التى اجتاحت العالم الى ضرورة الاستفادة من تلك التطبيقات الذكية فى مجال العدالة فى ظل ظروف العمل عن بعد ،وقد سارعت بعض الدول الى تطبيقها فى المحاكمات واجراء  جلساتها عن بعد ، كما تعددت برامج المساعد القانوني فى ترتيب البيانات القانونية ، واستخدمت أجهزة الشرطة التنفيذية  تلك التطبيقات فى تحليل الجرائم ومراقبة الاماكن ورصد الجرائم  وغيرها ، لكن فى نفس الوقت برزت تحديات قانونية تعلقت بالاشكاليات التى تمخضت عنها تلك الاستخدامات فى مجالات مختلفة سواء فى تطبيقات إنجاز لعدالة ، أو  المسؤولية المدنية والجنائية عن الذكاء الاصطناعي، والعقود التجارية الالكترونية وغيرها ، ومسائل الحرية والبيانات الشخصية،والجرائم الرقمية ، وهو ما حدا الى ضرورة مناقشة الأمر  للوقوف الى أهميته وتحدياته وطرق المعالجة .

سأتناول الموضوع في محورين :

 

المحور الأول : أهمية استخدامات الذكاء الاصطناعي فى مجال تحقيق العدالة :

      أتاحت التكنولوجيا الجديدة وتطبيقاتها فرصاً جديدة  لانفاذ القانون والتحقيق الجنائي والملاحقة القضائية ، وتحسين السلامة العامة وتمكين أجهزة انفاذ القانون والعدالة الجنائية من منع الجريمة ومكافحتها من خلال التقدم التكنولوجي وهو أثر ايجابي على تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 ولاسيما الهدف رقم 16 من تلك الأهداف .

   ويعد الذكاء الاصطناعي وليد الثورة المعلوماتية ولديه القدرة على تحليل البيانات واجراء البحث بسرعة قصوي من شأنها ارشاد العاملين فى المجال القانوني ، وتمكينهم من وضع استرتيجيات قانونية تتميز بالدقة والشمولية واستنتاج تصور شامل بشكل استباقي لنتائج الدعاوي القضائية الأكثر احتمالاً ، ويتوقف ذلك على مدي شمولية قاعدة البيانات التى تتضمن الوثائق والمستندات القانونية التى تم تزويده بها ،كما أثبت فعاليته وسرعته فى ادارة المهمات الروتينية المتكرره لمراجعة العقود والمستندات والوثائق واجراء الابحاث القانونية.

   فهناك الكثير من الدول الغربية والعربية تعكف على تطبيق التحول نحو العدالة الرقمية من خلال دمج الذكاء الاصطناعي فى المحاكمات ،حيث يمكن ان يساهم فى مساعدة المحاكم فى انجاز المهام المتكررة بما يسهم فى تركيز الموارد على القضايا الأكثر تعقيداً للوصول الى عدالة ناجزة ، فدولـــــة الصــــــين أطلقــــت خدمـــة التقاضى عبر الأنترنت من أجــــل “العمل الأساسي المتكرر” وفى أوربا عملت استونيا وغيرها على تطوير قاض آلي لرعاية قضايا المطالبات الصغيرة التى تقل عن سبعة آلاف يورو ، وتستخدم الولايات المتحدة الذكاء الاصطناعي فى قاعة المحكمة وتحليلات البيانات فى نقاط مختلفة داخل نظام العدالة ، كما يمكن لتلك التطبيقات التنبؤ بالمخاطر قبل الحكم بالافراج المشروط والمراقبة للمتهمين .

   فمن أجل الوصول الى عدالة سريعة طبقت نظم المحاكمة عن بعد باستخدام تقنيات الاتصال المرئي ، فيتم التعامل مع الدعاوي القضائية بدءاً من قيد الدعوي وحتى التنفيذ الكترونياً ،  وهو ما يعنى الاستغناء عن التعامل الورقى فى التقاضي بشقيه الجنائي والمدني.

كما ان له دور فى الاستشراف المستقبلى والتدبير الذكي للمنظومة القضائية على خلفية الوعي الكامل بأهمية توظيف الذكاء الاصطناعي فى تسهيل سير العدالة  وتحقيق الشفافية واختصار الوقت فى مسار سير القضايا، واستحضار الجانب الأخلاقي المتصل بهذا الموضوع وما يطرحه من اشكاليات .

    فمشروع ادخال الذكاء القضائي فى دائرة القضاء يعزز من كفاءة التقاضي وتطوير العمل على المحاكم والنيابات مع التركيز على خفض النفقات والتكاليف التشغيلية من خلال استخدام قدرات التنبؤات المستقبلية وتحليلات الذكاء الاصطناعي بما يضمن تحقيق الاولويات الاستراتجية المتمثلة فى جودة واتساق الاحكام القضائية وتميز الخدمات العدلية، ففى تجربة لجامعة لندن، صممت الجامعة نظاماً ذكياً لمساعدة القضاة في المحاكم الأوروبية التابعة لحقوق الإنسان، ويهدف إلى مساعدة القضاة على تصنيف القضايا وترتيبها بحسب الأولوية المتعلقة بحقوق الإنسان، وخاصة قضايا العنف منها، واستطاع النظام الذكي أن يصيب في التنبؤ في الأحكام بمعدل ٤ من كل ٥ حالات، أي بنسبة ٧٩٪، حيث غذى العلماء النظام بأكثر مِن ٦٠٠ قضية سابقة، استخدمها النظام مرجعاً، وهذا النظام وغيره عند استخدامه في المحاكم، لن يستبدل القضاة أو يقصيهم، ولكن سوف تزيد من فاعلية المحاكم العليا والأكثر طلباً.

 وفى مجال مهنة المحاماة وهى من المهن الهامة فى مجال القانون ، فإن الذكاء الاصطناعي أظهر قدرته على توجيه المحامين والمستشارين القانونيين وانارتهم نحو أفضل الطرق والوسائل لاجراء المفاوضات للتوصل الى حل نزاع معين بدقة وسرعة وتوفير الوقت المخصص لتقصى وجمع المعلومات اللازمة حول مسألة معينة، كما يمكنه ان يسهم فى تقليص الوقت الذى يبذلة المحامين فى اجراء الابحاث القانونية ، ومن ثم فهو يسهم فى الانجاز وزيادة الانتاج وتقديم الاستشارات والخدمات القانونية بشكل دقيق.

المحور الثاني: التحديات التى يواجها تطبيق الذكاء الاصطناعي فى العدالة.

    رغم المحالاوت الدولية لمعالجة الاشكاليات المتعلقة باستخدامات تطبيقات الذكاء الاصطناعي فى مجال التجارة الدولية والتى تتعلق بالعقود الالكترونية وحجية الاثبات ، وغيرها من خلال التشريعات الدولية والقوانين الاسترشادية فى أوربا وغيرها ، لكن فى مجال القضاء ظهرت أيضاً مخاوف حيال امكانية تطبيق الذكاء الاصطناعي فى القضاء لكون ذلك القطاع يمس محور حياة الانسان وهو العدل الذى يتطلب الوصول اليه بشكل مطمئن ، وهنا فعملية محاكاة القدرات الذهنية البشرية  يمكنها أن تقوم بالتفكير المنطقى إزاء اوراق الدعوي والنزاعات ، والاستقرار الى حيثيات الدعوي ، فرغم تفاعلية تلك التطبيقات فى المحاكمة لكنها أيضاً لا تستيطع بشكل دقيق قراءة تعبيرات المتهم أو ردود أفعاله والتى تعد من قرائن التحقيق التى يستدل منها المحقق على مدي جدية او كذب الأمر ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخري وجود الأعطال الفنية أو البرمجة والتى يمكن أن تتحكم فى مصير روح بشرية  من خلال الاحكام  الصادرة.

لذا الذكاء الاصطناعي يمثل قمة تطور الثورة الصناعية الحديثة ، والذى لا شك فيه أن أدخل تغيرات جذرية فى مجالات الحياة البشرية ، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، حتى بات جزء كبير منها يعتمد عليها  ويخاصة فى مجال خدمات التعليم والصحة والنقل وغيرها ،بيد أن هناك توجهات عالمية نحو الاستفادة منها فى مجال أنجاز العدالة لما لها من قدرات على التحليل والتنبؤ واصدار الاحكام ، والتى تعتمد بشكل كبير على دقة وحجم البيانات التى يغذي بها ، وبدأت تطبيقات ذلك فى الكثير من دول العالم ,لكن فى نفس الوقت هناك مخاوف من تطبيقها .

ونستخلص من الموضوع التوصيات التالية:

  1. من الضرورى التوجه نحو المستقبل فى مجال انجاز العدالة والاعتماد على تلك التطبيقات الذكية فى دقتها وسرعتها ، شريطة ان يقتصر ذلك فى البداية على مجال الدعاوى المدنية والمالية ، كالغرامات والضرائب وغيرها ، وارجاء الأمر فى القضايا الجنائية مثل القتل وغيرها ، لما لها من حيثيات كثيرة تراعي من قبل القاضى الطبيعي خاصة أنه فى حال وجود القاضى الذكي ورفص المتهم لما يوجهه اليه سترد الدعوى الى القاضي الطبيعي.
  2. لابد من أحداث تغيرات وموائمات كثيرة حيال التشريعات الوطنية لتدارك اخطاء هذه التطبيقات فى مجال المسؤولية المدنية والجنائية ، ومواكبة لما تلعبة من دور فى الاثبات وبخاصة فى مجال التجارة الدولية .
  3. من الضرورى الأخذ بعين الاعتبار دقة وشمولية البيانات التى تغذى بها برامج التطبيقات الذكية فى مجال العدالة ، وضمان القدرة البشرية الفعالة للتعامل معها ومع المستجدات .
  4. لابد من البحث الدقيق حول معالجة أثار ذلك الاستخدام من حيث بعض الموضوعات ومنها حجية الحكم ، وطرق الطعن عليه ، وكيفية معالجة الاخطاء الواردة عنها ومداها الزمني وغيرها .
إغلاق