دراسات قانونية

الإقرار في الإثبات المدني

كل نزاع أمام القضاء يفترض وجود خصمين أساسيين هما المدعي والمدعى عليه . ويمثل كل من هذين الخصمين مصلحتين متناقضتين ، ويسعى كل منهما لإثبات أحقيته في الحق موضوع النزاع القائم بما يقدمه من أدلة معتبرة قانونا ، وبالتالي لإقناع القاضي بالحكم لصالحه . فالإثبات ، بمعناه القانوني ، هو إقامة الدليل أمام القضاء ، بالوسائل التي حددها القانون ، على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها .

ويعد الإقرار أحد أدلة أو طرق الإثبات القضائي التي أقرتها وقننت أحكامها الشرائع القانونية لغالبية المجتمعات الإنسانية على مر العصور ، وذلك برغم اختلاف المذاهب الفكرية لتلك الشرائع ، وتباين نشأتها وأصولها التاريخية .6

ولقد اكتسب الإقرار دورا مميزا في مجال الإثبات القضائي ، بالنظر لصفته التجريدية المتمثلة في عدم تصور أن يظلم الإنسان نفسه فيعترف أمام القضاء بحق للغير على نفسه . فالإقرار يتصل بالحقيقة الواقعية، لأنه إخبار عن هذه الحقيقة من نفس الفاعل ، فالصدق فيه مؤكد ، ومن ثم فان حجيته تكون قاطعة في فض المنازعات والفصل بين المتخاصمين أمام القضاء .

ولذلك اعتبر الإقرار في الشرائع القانونية القديمة ، سيد الأدلة بلا منازع ، وأقوى طرق الإثبات وأصحها . حتى أطلق عليه فقهاء القانون الروماني اسم ((حجة الحجج))، كما وصفه شراح القانون الفرنسي القديم بأنه ((الدليل الراجح)) .

وقد أخذت الشريعة الإسلامية الغراء بالإقرار كوسيلة من وسائل الإثبات . وحين بزغ فجر الإسلام ، عنى ابتداءا عناية بالغة في تطهير أنفس المسلمين من الغش والخداع والاعتداء على حقوق الغير ، وهذب سلوكياتهم على فضائل الأخلاق والقيم النبيلة ، وأمرهم صراحة بوجوب التزام معايير العدل والإنصاف في التعامل مع عموم الناس مسلمين كانوا أم غير مسلمين ، حيث قال تعالى في كتابه الكريم :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ (النساء/135) .

وهكذا مهد الدين الحنيف السبيل لتأخذ شريعته الغراء بالإقرار كوسيلة من وسائل الإثبات ، وليتولى الفقهاء المسلمون – بعد ذلك – إستنباط أحكامه وشروطه الشرعية من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة . ثم ليتوسعوا في تأصيلها وشرحها ، حتى لم يتركوا جزئية متوقعة من واقعهم ، أو مسألة محتملة قد تخطر على البال ، إلا وإجتهدوا في تقرير حكم أو حل لها ، فكان ما إجتهدوا به إبداعا أصيلا في ميدانه ، وإسهاما فائق الغنى والشمول في موضوعه .

وفي عصرنا الراهن ، تعتمد الشرائع القانونية في مختلف الدول والمجتمعات الإنسانية ، الإقرار كوسيلة من وسائل الإثبات القضائي . كما حرصت القوانين المدنية في جميع البلاد العربية على تقنين الإقرار في تشريعاتها ، وبما يؤمن تنظيم أحكامه ، وتفصيل شروطه ، وبيان الآثار المترتبة عليه .

والإقرار ، كمفهوم متداول في الفقه القانوني ، هو اعتراف الشخص أمام القضاء بحق عليه لشخص آخر . ويكتسب الإقرار – كوسيلة من وسائل الإثبات القضائي – أهمية بالغة بالنسبة لطرفي النزاع المعروض أمام القضاء . فعلاوة على أن صدوره عن أحد الخصمين مستوفيا لأركانه وشروطه القانونية ، يمنح الخصم الآخر فرصة التمسك به إثباتا لدفعه أو دعواه ، ومن ثم إنهاء النزاع القائم لمصلحته ..، فإنه – ومن جانب آخر – يعد دليلا قاطعا على من صدر عنه الإقرار في صحة موضوعه ومحتواه ، فلا يقبل منه أي دليل آخر يناقضه أو يخالفه .

لقد اعتمدت في دراستي لموضوع البحث والإحاطة به على ثلاثة مناهج علمية هي: المنهج التاريخي ومنهج التحليل النظمي والمنهج المقارن . فبعد متابعة التطور التاريخي لدور الإقرار كوسيلة من وسائل الإثبات في القضاء المدني ، ولغرض التوصل إلى صحة الفرضيات المعتمدة في الدراسة ، فقد كان لي في ذلك مسارين رئيسيين ، أولهما : دراسة نصوص القانون العراقي وبعض القوانين العربية النافذة بشأن الإقرار وشروحها لدى فقهاء القانون المدني العرب المعاصرين ، إضافة إلى المبادئ القضائية لمحكمة تمييز العراق وبعض محاكم التمييز والنقض العربية ، وثانيهما : دراسة القواعد والأحكام المقننة للإقرار كوسيلة من وسائل الإثبات القضائي في التشريع الإسلامي ، إضافة إلى الاجتهادات الفقهية والأحكام التفصيلية التي أبدعها الفقهاء المسلمون من مختلف المذاهب الإسلامية في هذا الشأن .

وقد قسمت الكتاب الى أربعة فصول ، قَدَّمَت لها بمبحث تمهيدي خصصته للتعريف بالإثبات وأهميته وعرض وسائله المعتبرة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي . وتضمن الفصل الأول ثلاثة مباحث خصصتها لتعريف الإقرار لغة واصطلاحا ومدى مشروعيته وفقا لمصدري الشريعة الإسلامية الأساسيين : القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وكذلك وفقا لما استقر عليه إجماع المسلمين بعد انتقال الرسول المصطفى (ص) الى جوار ربه . ولتمييز الإقرار عما يخالطه من وسائل الإثبات الأخرى كالاعتراف والشهادة والإستجواب . كما وتضمن الفصل الثاني ثلاثة مباحث أيضا خصصتها لبيان الطبيعة القانونية للإقرار وخصائصه وأقسامه بصوره المتداولة فقها وقانونا ، وكذلك بنوعيه المعروفين الإقرار القضائي والإقرار غير القضائي . وتضمن الفصل الثالث مبحثين خصصتهما لبيان أركان الإقرار وشروطه القانونية . فيما تضمن الفصل الرابع مبحثين أيضا تناولت فيهما الآثار القانونية المترتبة على الإقرار ، ثم بعض الأحكام الخاصة به والتي قررتها نصوص القانون العراقي النافذ كالكذب في الإقرار ، والتناقض فيه ، ورده ، وكذلك إقرار المريض في مرض موته . وأخيرا أنهيت البحث بخاتمة لخصت بإجمال ما توصلت إليه من إستنتاجات حول موضوع البحث وما أقترحه من توصيات بشأنه .

إن الجهد الانساني قاصر بطبعه ، فالكمال لله وحده ، ولكن يحدوني الآمل بأن يشكل هذا الكتاب إضافة نوعية للمكتبة القانونية العربية .

إغلاق