دراسات قانونية

الإطار القانوني للوقفات السلمية (بحث قانوني)

الإطار القانوني للاحتجاجات السلمية: الوقفات

مقدمة:

يعد الحق في الاحتجاج السلمي من أهم حقوق الإنسان التي نصت عليها جل العهود والمواثيق الدولية، وكرستها الدساتير المختلفة لكل لدول العالم، وهو حق الإنسان في حرية التعبير عن الرأي بمختلف السبل وشتى الوسائل كالتجمعات السلمية التي تهدف للتظاهر تعبيراً عن رأيهم في موضوع ما سواء كان هذا الموضوع يمس حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، أو يمس بالحياة اليومية للأفراد، ويكون التعبير عن الرأي بالتجمعات السلمية عن طريق رفع الشعارات في المطالب التي يهدف الأفراد إلى الوصول إليها من خلال هذه التجمعات السلمية.

والمشرع المغربي حاول أن يكرس هذا الحق بناء على ما تنص عليه هذه الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، فقد تضمنت الدساتير والتشريعات المتعاقبة التنصيص على هذا الحق، غير أن الضمانات الدستورية والقانونية لا تزال محدودة، وتمس بالحق في التجمع السلمي.

فمنذ حصول المغرب على الاستقلال اعتبر إقرار الحقوق والحريات من أهم دعائم إرساء دولة الحق والقانون، فكان له هذا الامتياز مقارنة بأغلب دول العالم الثالث المستقلة حديثا، والتي لم تعط لهذا الجانب كبير اهتمام تحت ذريعة أن لها تحديات أكثر أهمية من حقوق الإنسان، وتتجلى في التحديث والتنمية ومحاربة الفقر… وهذا ما تعكسه الإنتاجيات القانونية.

فقد شهدت السنوات الأولى من الاستقلال (1956 – 1961) الإقرار العمومي لمجموعة من الحقوق وذلك في أجواء يطبعها التوافق بين القوى السياسية الموجودة آنذاك (القصر والحركة الوطنية) لإقامة دولة وطنية يشكل الإطار القانوني للحريات العامة أهم عنصر بالنسبة لها.

وقبل تجسيد عملية إقرار الحريات والحقوق قانونيا، اعتبر العهد الملكي الذي صدر في شكل خطاب موجه إلى الأمة بمثابة قانون أساسي، في وقت كان المغرب لازال يتهيأ لاستقبال تجربة الدستور، وقد تضمن هذا العهد مجمل الخطوط التي سيعمل على إبرازها فيما بعد قانون الحريات العامة.

عهد ملكي صادر بتاريخ 8 ماي 1958 اعتبر” بمثابة قانون أساسي، في وقت كان المغرب لا زال يتهيأ لاستقبال تجربة الدستور، وقد تضمن هذا العهد مجمل الخطوط التي سيعمل على إبرازها فيما بعد في قانون الحريات العامة” [1]

كما حدد المبادئ التي يجب أن تسير وفقها هذه الحقوق والحريات،” فالعهد الملكي إلى جانب إبرازه لمسألة كانت تشغل النخبة السياسية فإنه أبان بصورة واضحة أن أفضل حكم يمكن أن تعيش البلاد في ظله وتمارس من خلاله سيادتها هو الحكم الديمقراطي، واعتبر أن الأمر لن يتيسر إلا في ظل وجود مؤسسات سياسية دستورية، وبين كيف يمكن أن تتحقق بموجب سيادة الشعب، والفصل بين السلطات، وإقرار الحريات العامة بقانون.”[2]

سيتوج الاهتمام بالحقوق والحريات ما بين 1956 و1961 بصدور ظهير الحريات العامة، وهي تضم أربعة قوانين أساسية وهي بالإضافة إلى القانون المتعلق بالحرية النقابية، القانون المتعلق بالحريات والقانون المتعلق بالتجمعات العمومية تم القانون المتعلق بالصحافة، قوانين صدرت في تاريخ واحد وهو 15 نونبر 1958 وخضعت لتعديلات مهمة استجابة للتوجيهات الملكية في العهد الجديد وتعد هذه المدونة أهم حدث حقوقي سنة 1958، والتي ظلت منذئذ تحتل مكانة أساسية في الرصيد القانوني والحقوقي المغربي.

” أثار موضوع التجمهر أو الوقفات الاحتجاجية السلمية جدلا كبيرا في الآونة الأخيرة بعد الحراك الذي عرفته الدول العربية ومن ضمنهم المغرب، ميز قانون الحريات العامة بين التجمع العمومي وبين التجمهر في الطريق العمومية وبين المظاهرات في الطرق العمومية.”[3]

وهنا يجب أن نضع تعريفات للمصطلحات حتى لا تتشابك المفاهيم (التجمهر، المظاهرات العمومية، الوقفات) وحتى لا نجد أنفسنا في تقاطعات موضوعية مع عروض أخرى.

فالوقفات الاحتجاجية[4] هي تطور ناتج عن مفهوم النضال الديموقراطي، وتعني المطالبة بحق من الحقوق أو التنديد بأمر ما سلميا فتكون معارضة أو مناصرة ولم يتطرق إليها ظهير التجمعات العمومية، لكننا نحيلها إلى الاجتهاد القضائي لملء الفراغ التشريعي الناتج عن ذلك، وهي اجتماع عارض وتلقائي تتميز عن المظاهرات العمومية بالثبات والسكون، وبالتحديد الزماني والمكاني، ومن شروط ممارستها ألا تكون اعتداء على حق عام أو خاص، وألا تكون في مكان وزمان يمسان بالنظام العام، مع ضرورة تقديم تصريح للسلطات العمومية يتضمن زمانها ومكانها.

لأجل ذلك ارتأينا، في هذه العرض المتواضع، استحضار النصوص الدستورية والقانونية، التي تؤطر وتحصر المجال الدستوري والقانوني للوقفات السلمية بالمغرب في علاقة بالسياق الدولي والقاري والإقليمي والمحلي.

موضوع تبرز أهميته في كونه أحد المواضيع المهمة الواجب دراستها في مادة الحريات العامة ولدراسة هذا الموضوع تم الاعتماد على تنوع منهجي بين المنهج التاريخي الوصفي في محاولة لبسط المسار التاريخي للوقائع السياسية التاريخية، والمنهج المقارن لبسط الاختلافات بين الأنظمة، وكذا منهج المقترب القانوني عبر دراسة الوثائق والنصوص القانونية.

ومن هنا يمكن طرح الإشكالية التالية:

كيف تتعامل الدولة المغربية مع الاحتجاجات السلمية: الوقفات نموذجا؟

إشكالية تجعلنا نفترض فعلا أنه يتم احترام الشروط القانونية للوقفات السلمية ولفضها بطريقة قانونية.

وللإجابة عن هذه الإشكالية والفرضية اللتين تم ذكرهما نطرح الأسئلة الفرعية التالية:

ما هي الترسانة القانونية والدستورية التي تؤطر حق الاحتجاج السلمي كونيا ووطنيا؟

ما هي الحدود، التي لا يمكن لأي فرد، جماعة أو سلطة، تجاوزها، وما هي النصوص القانونية، التي تخص وتؤطر هذا المجال؟

ما هي بعض اجتهادات القضاء في مجال حماية حق الوقفات الاحتجاجية السلمية؟

ولذلك حاولنا اختيار التصميم التالي:

مقدمة

المطلب الأول: الحق في الاحتجاج السلمي بين الإطار الكوني والقانون الوطني

الفقرة الأولى: الحق في التجمع السلمي في العهود والمواثيق الدولية

الفقرة الثانية: الترسانة القانونية المغربية لتنظيم حق الاحتجاج

المطلب الثاني: التجربة المغربية بين النصوص القانونية والهاجس الأمني

الفقرة الأولى: القيود المفروضة على حق الاحتجاج السلمي في المغرب

الفقرة الثانية: مقاربة قضائية للحق في الاحتجاج السلمي في المغرب

خاتمة:

المطلب الأول: الحق في الاحتجاج السلمي بين الإطار الكوني والقانون الوطني

إن تاريخ حقوق الإنسان والحريات العامة واحد، وهو عبارة عن نضال بشري ضد الاستبداد والتسلط ومن أجل الحرية والكرامة الإنسانية، فالثقافة الحقوقية لها أصول فلسفية وسياسية واجتماعية وهي ليست وليدة حقبة معينة أو أيديولوجية واحدة، بل هي نتاج تراكمات تاريخية متعاقبة.

تعد حرية التجمع السلمي من أهم الحريات السياسية التي تبنى عليها الأنظمة الديمقراطية، على اعتبار أنها من أهم الحقوق والحريات الأساسية التي تضمنتها مختلف صكوك واتفاقيات حقوق الإنسان.

الفقرة الأولى: الحق في التجمع السلمي في العهود والمواثيق الدولية

تعود بدايات ظهور الاحتجاجات الشعبية إلى عهد بعيد نسبيا، فأول ظهور لمفهوم الاعتصام أو التظاهر في معناه الحديث كان في منتصف القرن التاسع عشر، وكان أول من استعمل المفهوم هو الكاتب الأمريكي ديفيد هنري ثورو، في مقال شهير له نشر في سنة 1849، بعنوان العصيان المدني، وقد بدأ الاهتمام بدراسة سلوك التظاهر والاعتصام في منتصف القرن العشرين، وذلك في إطار أدبيات الرأي العام التي تناقش ما اصطلح على تسميته بثقافة الاحتجاج الشعبي.[5]

ولقد نصت المواثيق والعهود الدولية ومعظم دساتير دول العالم على حق الإنسان في التجمعات السلمية بداية من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر في 1789 الخاص بالحقوق بالمدنية والسياسية (المادة 11).[6]

ومباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، حلت منظمة الأمم المتحدة محل عصبة الأمم 1945، وكان أهم دور لها هو ترسيخ الديموقراطية وعالمية حقوق الإنسان والحريات العامة وفرض حمايتها من الانتهاك.

أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان[7]، والذي هدف إلى توسيع دائرة العالمية حتى تتسم بالشمولية، فقد نصت المادة 20 منه على ” لكل شخص حق في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية، ولا يجوز إرغام أحد على الانتماء إلى جمعية ما “.[8]

ظل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما بين 1948 و1966 مجرد نص ذو قيمة فلسفية أخلاقية أكثر منه ذا قوة قانونية ولتحقيق نوع من الإلزامية، تم وضع العهدان الدوليان لحقوق الإنسان، والذي سرى مفعولها 1976.

وتنص المادة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية [9] الذي صادق عليه المغرب [10]على:” يكون الحق في التجمع السلمي معترفا به ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقا للقانون وتشكل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية المصلحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم “.

كما أن مجلس حقوق الإنسان، دعا في قراره بشأن تعزيز وحماية حقوق الإنسان في سياق الاحتجاجات السلمية، مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان لضمان تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في سياق الاحتجاجات السلمية، وركز على ضمان عدة حقوق بما فيها الحقوق في حرية التعبير والتجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات والمشاركة في تسيير الشؤون العامة، المنصوص عليها في المواد 19 و21 و22 و25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الأساس لممارسة الاحتجاج السلمي.[11]

ويمكن أن نذكر أن الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب[12] وخاصة المادة 11 منه:” يحق لكل إنسان أن يجتمع بحرية مع آخرين ولا يحد ممارسة هذا الحق إلا شرط واحد ألا وهو القيود الضرورية التي تحددها القوانين واللوائح خاصة ما تعلق منها بمصلحة الأمن القومي وسلامة وصحة وأخلاق الآخرين أو حقوق الأشخاص وحرياتهم.”

إضافة إلى مصادقة جامعة الدول العربية على الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2004 المادة 24، [13] يعد إطارا آخر إقليميا لحماية الحقوق والحريات وخاصة حرية التجمع بصورة سلمية.

كما أن المغرب وقع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، حيث تنص مادته الثانية على أن احترام المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية التي حددها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، سيكون مصدر الهام للسياسات المحلية والدولية للطرفين، ويشكل عنصرا أساسيا من عناصر هذا الاتفاق. ويستفاد من النصوص السابقة أن الأصل العام أن الحق في التجمع السلمي مباح ولكن هل يجوز تقييد هذا الحق في إطار ما يسمح به القانون.

الفقرة الثانية: الترسانة القانونية المغربية لتنظيم حق الاحتجاج السلمي

تطور مسألة الاعتراف بكونية حقوق الإنسان ليست وليدة اللحظة، فقد ارتبط منذ نهاية القرن 19 بفكرة الإصلاح السياسي والدستوري، كمشروع دستور 1908، الذي تضمن مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية (تنظيم التجمعات السياسية والنقابية…)[14]، كما ترجع المصادر القانونية الحقوقية المغربية إلى بداية القرن 20، حيث تشكل مدونة الحريات العامة أهم هذه المصادر القانونية، كما صدر القانون المتعلق بالحريات النقابية 1957 بشأن ممارسة الموظفين للعمل النقابي، ثم العهد الملكي الصادر 1958، وتم فيه الاعتراف بحرية الاجتماع والتحزب وتكوين الجمعيات.

أولا: الدستور

إن الحفاظ على الأمن العمومي لا ينفصل عن حماية الحقوق، ولذلك ربط بينهما الدستور المغربي وأكد على أولوية الحقوق: إن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون(…) وإرساء مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة(…) في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة(التصدير). من خلال هذا الأمثلة نلاحظ أن الدستور المغربي (كأسمى قانون في الدولة) قد أكد على الحق (الغاية) ثم القانون (وسيلة لضمان الحق)، وربط بين الأمن (المجتمع) والحرية والكرامة (الأفراد).[15]

نص دستوري نجد أن فصله 6 نص على:” القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له.” واستحضارا لمقتضيات الفصل 37 من الدستور الذي ينص:” على جميع المواطنات والمواطنين، احترام الدستور، والتقيد بالقانون، ويتعين عليهم ممارسة الحقوق، والحريات، التي يكفلها الدستور، بروح المسؤولية، والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق، بالنهوض بأداء الواجبات “. يستشف من استقراء هذين الفصلين، أن الدستور الذي هو أسمى قانون، حدد من الناحية المبدئية، حقوق وواجبات، ورسم حدود، تهم الأشخاص الذاتيين والاعتباريين، بما فيها السلطات العمومية، هذه الحدود يتعين التقيد بها فالفاصل والحاسم فيها، هو احترام الدستور، والالتزام والتقيد بالقانون بطبيعة الحال، تحت طائلة إقرار جزاءات تنص عليها قوانين خاصة بكل مجال يتم خرق قواعده.

وبالانتقال إلى مقتضيات دستورية أخرى نجد الفصل 22[16]، والفصل 29[17] واللذان يندرجان في الباب الثاني الخاص بالحقوق والحريات الأساسية فيهما إشارة لممارسة هذا الحق المكفول دستوريا، ولعل التطور الملحوظ في هذا أن المشرع تجرأ واستعمل مصطلح التظاهر السلمي.

إلا أن الدستور ربط بين سمو الاتفاقيات الدولية في حالة عدم تعارضها مع أحكام الدستور وقوانين المملكة والهوية الوطنية،” إن التمسك بالقول بالخصوصية إنما هو قول حق وراءه باطل، لأنه غالبا ما يكون مطية لإخفاء بعض أشكال القمع وعدم احترام حقوق الإنسان، كما يكون أحيانا مطية للتحلل من التزامات قانونية، وواجبات إنسانية.”[18]

ثانيا: القانون المتعلق بالتجمعات العمومية

وإذا انتقلنا لدراسة قانون الحريات العامة في تطوره بين سنة إصداره 1958 وآخر تعديل له 2002، نجد الفصل 11 في الظهير شريف رقم 1.58.377 بشأن التجمعات العمومية[19] ينص على: ” تخضع لوجوب تصريح سابق جميع المواكب والاستعراضات وبصفة عامة جميع المظاهرات بالطرق العمومية” فيما انتقل سنة 2002 إلى ” تخضع لوجوب تصريح سابق المواكب والاستعراضات وبصفة عامة جميع المظاهرات بالطرق العمومية. لا يسمح بتنظيم المظاهرات بالطرق العمومية إلا للأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والهيئات المهنية والجمعيات المصرح بها بصفة قانونية والتي قدمت لهذا الغرض التصريح السابق المنصوص عليه أعلاه.” [20]

بقراءة لمقتضيات الفصل 11 فمفهوم المظاهرات العمومية يكتنفها بعض الغموض، في حين إذا تعلق الأمر بالتجمهر في الطرق العمومية فالشرط الوحيد الذي نص عليه القانون هو ألا يكون التجمهر مخلا بالأمن العمومي أو مسلحا كما نص على ذلك الفصل 17 ” يمنع كل تجمهر مسلح في الطريق العمومية ويمنع كذلك في هذه الطريق كل تجمهر غير مسلح قد يخل بالأمن العمومي”.

يحدد القانون المغربي، إذن، الأشخاص القانونية التي يسمح لها بتنظيم المظاهرات على سبيل الحصر، ومن خلاله يتضح جليا وجود فراغ قانوني عندما يتعلق الأمر بأشخاص يحتجون اجتماعيا (الحركات الاحتجاجية ضد شركات التدبير المفوض مثلا) أو سياسيا كحالة حركة 20 فبراير فهي حركة جماهيرية سلمية غير معترف بها قانونيا ورغم ذلك استجاب الملك لبعض مطالبها في خطاب 9 مارس مما أسفر عن دستور 2011.

ثالثا: المجلس الوطني لحقوق الإنسان

بدوره قام في إطار اختصاصاته في مجال حماية حقوق الإنسان، بإعداد دراسة حول “حرية الاحتجاج السلمي” التي عرفت تطورا كميا ونوعيا خلال السنوات الأخيرة، وقد تمت معالجة هذا الموضوع من خلال التوقف عند تحديد مفهوم الاحتجاج كظاهرة اجتماعية وكذا من خلال الوقوف على تأصيلها القانوني.[21]

وأصدر مذكرة متعلقة بالتجمعات العمومية[22] أكدت على حماية الحق في حرية الاحتجاج السلمي.

رابعا: مؤسسات الحفاظ على النظام العام

بخصوص الأمن الوطني، حسب المادة الثانية من الظهير الشريف بتاريخ 23 فبراير 2010، تتولى المديرية العامة للأمن الوطني “المحافظة على النظام العام وحماية الأشخاص والممتلكات”.

وبما أن عمل هذه القوة العمومية في الحفاظ على النظام العام من شأنه أن يقيد حريات الأفراد وضعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 34/ 169 ” مدونة لقواعد السلوك للموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين”. وذلك أخذا بالاعتبار “أن طبيعة مهام إنفاذ القوانين في سبيل حماية النظام العام، والطريقة التي تتم بها ممارسة هذه المهام، تؤثران تأثيرا مباشرا على نوعية حياة الأفراد وحياة المجتمع ككل”.

المطلب الثاني: التجربة المغربية بين النصوص القانونية والهاجس الأمني

إن حرية التعبير والرأي لا تفيد شيئا إن لم يكن بإمكان المشرع ضمان حرية عقد التجمعات العمومية[23]، فقد ميز المشرع بين شكلين من التجمعات العمومية: تجمعات مباحة، تجمعات محظورة، كما قسم التجمعات المباحة إلى صنفين: الاجتماعات العمومية والمظاهرات بالطرق العمومية، وما يهمنا في هذا المطلب المظاهرات السلمية بالطرق العمومية، والمنصوص عليها في الكتاب الثاني في الفصول من 11 إلى 16.

الفقرة الأولى: القيود المفروضة على حق الاحتجاج السلمي في المغرب

أثناء كل تدخل أمني لتفريق احتجاج أو مظاهرة يتجدد النقاش حول القانون المنظم لأشكال الاحتجاج في الأماكن العمومية، إذ غالبا ما تقدم السلطات المحلية الظهير الشريف رقم 1.58.377، بشأن التجمعات العمومية الصادر في 15 نونبر من سنة 1958 (عدل مرتين آخرها عام 2002)، كنص قانوني يشرعن عملية التدخل، بينما يعتبر الحقوقيون في كثير من المرات أن القوات العمومية تتدخل خارج إطار القانون.

فالعديد من الوقفات الاحتجاجية السلمية انتهت بتدخلات أمنية مخلفة إصابات تتفاوت خطورتها بين صفوف المحتجين، فالسلطات المحلية تعتبر بأنه تجمهر غير مرخص، وتستند على الظهير المذكور والذي ينص على ضرورة أخذ تصريح سابق لجميع المظاهرات بالطرق العمومية، كما يمنع كل تجمهر مسلح، وكل تجمهر غير مسلح من شأنه أن يخلّ بالأمن العمومي، ويحدد القانون ضرورة استخدام مكبر صوت من طرف عميد الشرطة القضائية، أو كل عون آخر يمثل القوة العمومية والسلطة التنفيذية ويحمل شارات وظيفته، قبل التدخل، لتبليغ المتجمهرين بضرورة الانصراف ثلاث مرات، مع ذكر العقوبات المنصوص عليها في الفصلين 20 أو 21 والتي قد تصل إلى شهرين اثنين في حالة التجمهرات غير المسلحة إذا وقع تشتيتها بالقوة (ف19و20).

” تتجاوز القيود التي يفرضها المغرب على التجمعات العمومية بمراحل الأسباب المحددة بشكل ضيق جداً والمنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. فبموجب المادة 13 من قانون التجمعات العمومية للعام 1958، يجب على منظمي المظاهرة الحصول على تصريح مسبق من السلطات التي يجوز لها أن تمنعهم من القيام بالمظاهرة، إذا “ارتأت أن من شأن المظاهرة المزمع القيام بها الإخلال بالأمن العام” ويمكن حظر التجمعات المسلحة أو غير المسلحة في الطرق العمومية “التي يمكن أن تخل بالأمن العام” وتفريقها وفقاً للفصلين 17 و19 من القانون نفسه. ولا يرد في القانون المغربي أي تعريف لما يشكل إخلالاً بالأمن العام، تاركاً تفسيره في أيدي السلطات. وغالباً ما تُستخدم سلطة التصرف الواسعة هذه لمنع المظاهرات السياسية أو تفريقها، رغم أنه يتم السماح أحياناً بإقامة التجمعات، بما فيها التجمعات الكبيرة، وغالباً ما تعمد الشرطة إلى تفريق التجمعات السلمية.”[24]

ومن جهة ثانية لا يتحدث القانون بخصوص المظاهرة بالطريق العمومي عن تفريق المتظاهرين بالقوة، وإنما ينص على مجموعة عقوبات يحكم بها القاضي (الفصل 14 و15) لمن خالف بعض المقتضيات المتعلقة بالتصريح.

كما أن هذه القيود مفروضة أيضا على القوة العمومية، فخلال تدخلها يجب أن تتقيد باحترام حقوق الإنسان وكرامته، فحسب منشور من رئيس الوزراء (رئيس الحكومة) إلى العمال (2يناير 1959) حدد جميع عناصر القوة العمومية التي يمكنهم الاستنجاد في حالة وقع الإخلال بالأمن بها.

ويبقى السؤال المطروح حول ملاءمة الظهير مع مرحلة ما بعد دستور 2011، باعتراف مؤسسة دستورية هي المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي قدَّم في مذكرته حول التجمعات العمومية مقترحات بمراجعة الظهير، حتى يكون مطابقا للوثيقة الدستورية، ولكون هذا الظهير في حاجة إلى “نفس ديمقراطي لمواكبة الاجتهادات القضائية والتوجهات والاتفاقيات الدولية المؤطرة للتجمعات العمومية خاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية[25]“.

ونتيجة لذلك، لا تتوفر في القوانين أي وسيلة محددة لضمان التزام السلطات المختصة بهذه الأحكام، ولذا فان التمتع بحق التجمع السلمي معرض لقيود ناتجة عن التطبيق العشوائي للقانون. وفي نهاية المطاف، هذا الممارسات تجعل من إجراء التصريح المسبق معادلا للحصول على ترخيص مسبق من السلطات، وتجعله وسيلة لرفض منظم وغير مبرر لتنظيم حق دستوري في التظاهر السلمي.

” إن السلطات المحلية تتعامل مع هذا الظهير وفق مقاربة هامش الربح والخسارة، فـ”تارة تتغاضى عن فض التجمعات، وتارة أخرى تمنعها وتفضها بمقاربة أمنية صارمة، وتارة تتجاوب معها وتبرر الإنزال الأمني بحماية المتظاهرين”، وهو الأمر الذي يجعل المنظمات الحقوقية تصف تعامل الدولة مع المتجمهرين، بـ “التعامل المزاجي وغير المفهوم”، فالسلطات مطالبة بـ “حكامة أمنية تحترم المقتضيات الدستورية والقانونية المتعلقة بفض التجمهر”.[26]

الفقرة الثانية: مقاربة قضائية للحق في الاحتجاج السلمي في المغرب

إن القاضي المستقل الذي يمارس سلطته باستقلالية تامة عن أي تأثير (والأمثلة في القضاء المغربي عديدة على انتصار القاضي للحقيقة) هو القادر لوحده على تفسير ما وقع وترتيب النتائج القانونية عليه، مع العمل على تنفيذ ما يصدر عن القضاء من أحكام، ومن بين المبادئ التي أكدها القضاء المغربي نذكر ما يلي:

ليس هناك في التشريعات المقارنة ولا في الاجتهادات القضائية ما يحرم الإدارة من التدخل لاتخاذ التدابير الملائمة للمحافظة على الأمن العام ففي فرنسا تم إقرار مشروعية قرار منع مسيرة دينية لما تبين لمجلس الدولة الفرنسي الاضطرابات الجسيمة بالنظام العام التي أحدثتها المسيرات الدينية المماثلة في البلديات المجاورة (محكمة الاستئناف الإدارية بمراكش الغرفة الأولى قرار رقم 1362 – بتاريخ 15/11/ 2009).

“الحريات العامة وحقوق الإنسان في المملكة المغربية يضمنها القانون وليس من العدل المس بالمكتسبات في النهج الديمقراطي بمجرد إكراهات فرضتها بعض الأحداث” (محكمة الاستئناف بتطوان ملف رقم 3183/2003 صادر بتاريخ 08/10/2003).

إن القضاء المغربي في تعامله مع قانونية الوقفة الاحتجاجية السلمية والمظاهرة بالطريق العمومي نجده أن تراوح بين اتجاهين: بين من يعتبر الوقفة الاحتجاجية مظاهرة عمومية ورأي يعتبرها ليست كذلك، مما يدفعنا إلى بحث الحجج التي يستند إليها كل طرف.

أولا: الوقفة الاحتجاجية مظاهرة بالطريق العمومي:

ذهبت المحكمة الإدارية بفاس- في حكم عدد 325 / 2006 في الملف الإداري عدد 115/غ/ 2006 بتاريخ 10 مايو 2006 بين جمعية مبادرات لحماية حقوق النساء (المدعي) والسيد رئيس المنطقة الحضرية لأكدال (المدعى عليه) – في قرارها إلى اعتبار الوقفة الاحتجاجية مظاهرة بالطريق العمومي، مقرة بذلك التفسير الإداري، حيث وجوب احترام مقتضيات الفصل 12 من قانون التجمعات العمومية، والقاضية بوجوب تقديم تصريح سابق للسلطة الإدارية المحلية (رئيس المنطقة الحضرية لأكدال)، وذلك استنادا على الحجج التالية:

بما أن الوقفة تعني احتلال الفضاء العمومي من طرف الأفراد والجماعات، فإنها تعتبر مظاهرة بالطريق العمومي، وإن كانت غير متحركة تشغل مكانا عموميا دون أن تمر بالضرورة بالطريق العام.
الإعفاء من وجوب التصريح محدد صراحة بنص القانون ويتعلق الأمر بالخروج إلى الشوارع العمومية طبقا للعوائد المحلية (الأعراس، الجنائز والمواسم).

ضرورة احترام الآجال المحددة في ثلاثة أيام إلى خمسة عشرة يوما (مباشرة أو برسالة مضمونة)، ذلك أن الوقت يسمح للسلطة بدراسة التصريح وتقدير مخاطر المظاهرة، والإعداد لتأطيرها من الناحية الأمنية، لأن السلطات العمومية موكول لها حماية المظاهرة والمتظاهرين، وحماية الغير وحماية الممتلكات.
وعليه، فإن عدم التزام الجهة المنظمة بهذه المقتضيات يوجب المنع؛ مما يعني أن قرار السلطة الإدارية المحلية يعد قرارا شرعيا عير معيب بتجاوز السلطة، وبسوء تأويل مقتضيات الفصل 12.

ثانيا: الوقفة الاحتجاجية ليست مظاهرة بالطريق العمومي:

تمسكت الجهة المدعية (جمعية مبادرات لحماية حقوق النساء) بطلب إلغاء قرار السلطة الإدارية لسوء تطبيقه القانوني، وذلك على أساس الحجج التالية:

عدم تعريف المشرع للمظاهرة (على عكس الجمعية والاجتماع العمومي) يفتح المجال أمام التأويل والتضارب في التفسير.

لكن محكمة الاستئناف بالرباط الغرفة الجنحية في قرار رقم 6997 صادر بتاريخ 21 / 11/ 2001 ذهبت في الرد على الحكم الابتدائي الذي اعتمد التعريف الفقهي للمظاهرة القائل بأن هذه الأخيرة “لا تقتضي بالضرورة التحرك و الجهر بالأفكار و الشعارات التي اجتمع من أجلها هؤلاء الأشخاص” : ” و حيث أنه لا داعي للرجوع إلى الفقه لتعريف المظاهرة ما دام القانون المنظم للتجمعات العمومية قد حسم في الأمر في الفقرة الثانية من الفصل 12 و القاضي بالتصريح إذ حدد بما لا يدع مجالا للشك بأن التصريح المقدم يتضمن من جملة ما يتضمن الطرق المنوي المرور منها، و عليه فلا بد لتحقيق الركن المادي للمظاهرة من تحرك المتجمهرين و هو ما ذهب إليه اجتهاد مجلس الدولة”.

من خلال ما سبق يتضح أن المظاهرة، حسب قانون التجمعات العمومية، يقتضي تحديد الطرق المنوي المرور منها، مما يوجب ضرورة التصريح. أما الوقفة الاحتجاجية فلا توجب مثل هذا التدبير، وهذا ما أكده الاجتهاد القضائي في مجموعة من أحكامه وقراراته نورد من بينها:

قرار المجلس الأعلى عدد 1781/ 4 بتاريخ 07/07/1999: يستفاد من الفصل 12 أن الفعل المادي للمساهمة ضمن مظاهرة إنما يتحقق بالمرور الجماعي للمساهمين فيها بالطرق والشوارع وأن مجرد احتشاد الناس في مكان محدد إنما يعتبر تجمعا فقط”.

محكمة الاستئناف بالجديدة، الغرفة الجنحية قرار رقم 1236 /01 بتاريخ 21/03/ 2003: ” حيث أنه لم يثبت من خلال تصريح الأضناء تمهيديا وأمام المحكمة أنهم انتقلوا مرورا بشكل جماعي بالطرق العمومية فهم حسب القانون كانوا يقفون جماعة أمام مبنى البلدية ولم يجوبوا الشارع المحاذي لها كما أنه لم يثبت للمحكمة أن تجمهرهم يخل بالأمن العام”.

خاتمة:

صحيح أن المشرع المغربي قد اعترف بالحق في التجمع السلمي للأفراد وذلك من خلال التوقيع على العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تكرس هذا الحق، كما أن دساتير المغرب المتعاقبة قد كرست الحق في التجمع السلمي دون سواه، فالمشرع الدستوري كان يعمل على تكريس هذا الحق متجنبا إقرار حق الأفراد في التظاهر السلمي عبر التنصيص عليه، إلا أنه وضع عليه العديد من القيود التي بأصل ممارسة هذا الحق، فالاعتراف الدستوري بكل هذه الحقوق مضمون دستوريا لكن القوانين مقيدة للممارسة هذه الحقوق وليست منظمة لها فقط، فالحق في التجمع السلمي في المغرب حاله كحال الحق في تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، فهو يعاني من تدخل السلطة التنفيذية بل هيمنتها من خلال اعتماد نظام التصريح المسبق عند ممارسة هذه الحقوق، وهذا يتعارض والاتفاقيات والمواثيق الدولية التي يعد المغرب طرفا فيها.

كما تعد المذكرة التي قدّمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وطالب بتدوينها في الإطار القانوني الجديد المنظِّم لحريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، تضمّنت جُملة من المقترحات؛ وعلى رأسها تكريسُ حقوق المتظاهرين في الولوج إلى الفضاء العمومي، حسب كيفيات يمكن أن يحددها القانون، أو بمرسوم أو اتفاق بين المتظاهرين والإدارة. كما أكّد المجلس على واجب السلطات العمومية في حماية كل المتظاهرين، دون تمييز، من أشكال التهديد والمضايقة.

إن التجمعات الاحتجاجية السلمية بالمغرب يطرحُ، أيضا، سؤالَ مدى احترام السلطات المغربية للمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي صادقتْ عليها المملكة في مجال حقوق الإنسان؛ على رأسها العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، والذي ينصُّ في المادة الـ21 على أن يكون الحقُّ في التجمّع السلمي مُعترفا به، وعدم فرْض أيِّ قيود على ممارسة هذا الحق، إلا تلك التي تُفرض طبقا للقانون لصيانة الأمن القومي أو النظام العام..

هذا وتعتبر حقوق الإنسان محور دستوري تقتضي احترامها والحفاظ عليها دستوريا ومؤسساتيا. ومن أبرز تجليات حقوق الإنسان الاحتجاج والتظاهر السلميين وترجمتها من خلال الواقع عبر السلوكات الرسمية للدولة تحت مراقبة المؤسسات الخاصة ومن أهمها مؤسسة القضاء بمختلف أنواعه ذلك أن القرارات والأوامر والأحكام القضائية تبقى رهينة التعليل والتوضيح تجنبا لكل تعسف أو انتهاك أو تسلط لكن الواقع والتجربة تبقى هي المحك والحكم على مدى تفعيل الالتزامات باعتبار الدستور هو التزام سياسي وقانوني بين الدولة و المواطن أو الأفراد ولاسيما والمغرب يعرف اليوم نشاطا متزايدا نظرا لتنامي الوعي الحقوقي لدى فئات واسعة من المواطنين وإسرار هيئات المجتمع المدني على المراقبة والمشاركة في التأطير الحقوقي النوعي من أجل تحسين وتطوير مكانة المواطن في علاقته بالإدارة والدولة، وإبراز الدور الموكول إليه دستوريا وتثبيت مبدأ دولة حقوق الإنسان بتنزيل مضامين صك الحقوق لمعرفة مكامن النقص.

 

(محاماه نت)

إغلاق