دراسات قانونية

إشكالية النصوص التنظيمية لقوانين السلطة القضائية (بحث قانوني)

إشكالية النصوص التنظيمية لقوانين السلطة القضائية

الدكتور : حسن الوزاني التهامي

إشكالية النصوص التنظيمية لقوانين السلطة القضائية

يجد منح الحكومة سلطة التشريع في المجال التنظيمي مبرره في عقلنة عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية،[1] وذلك بأن يترك للحكومة أن تشرع في مجالاتها القطاعية بالنظر إلى أنها المكلفة بتدبير هذه القطاعات وهي التي تمتلك المعطيات لوضع تشريعات تقنية ودقيقة تلائم هذه القطاعات.

لذلك يعمد الدستور الى تحديد المواضيع التي تدخل في مجال القانون على سبيل الحصر، ويعتبر ما عدا ذلك يدخل في المجال التنظيمي الذي تشرع فيه الحكومة، وهو النهج الذي سار عليه في جميع الدساتير التي عرفتها المملكة منذ 1962.

كما قد يعمد المشرع في اطار المواضيع التي تدخل في مجال التشريع، إلى ترك بعض المقتضيات المكملة للقانون أو المقتضيات التطبيقية لتنظيمها بموجب نصوص تنظيمية وذلك لدواعي العقلنة كما قدمنا.

وعلى هدي ذلك فقد حدد دستور سنة 2011 في الفصل 71 وفي الفصول الأخرى المواد التي تدخل في مجال القانون على سبيل الحصر، في مقابل ذلك نص الفصل 72 على أن يختص المجال التنظيمي بالمواد التي لا يشملها القانون.

والقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة لم يخل من هذا الأمر، إذ أحال على نصوص تنظيمية في عشر مواد،[2] وكل هذه الاحالات – فيما عدا الاحالة المنصوص عليها في المادة 26[3] ـ جاءت بصيغة المستقبل بمعنى أن تطبيق هذه المقتضيات يتوقف على صدور هذه النصوص التنظيمية.[4]

ونظرا لأن المغرب يمر بفترة انتقالية، تكثر فيها المجالات التي تحتاج إلى اعادة بناء وإعادة إصدار القوانين بعد دستور 2011، ونظرا لمرور المملكة من فترة انتخابات تشريعية أعقبتها مرحلة تشكيل الحكومة التي استغرقت بضع شهور، كلها عوامل أدت إلى تأخر صدور النصوص التنظيمية المتعلقة بقوانين السلطة القضائية وبالتالي أطالت من مدة الفراغ على هذا المستوى.

ولأنه من المستحيل على الإدارة أن تقف مكتوفة اليدين لكون القانون الأساسي مرتبط بحياة القضاة، ولا يمكن للحياة أن تتوقف إلى أن يتحرك المشرع، فقد عملت كلا من وزارة العدل ووزارة المالية بالنصوص التطبيقية المتعلقة بالنظام الأساسي للوظيفة العمومية على القضاة ومنها على سبيل المثال مرسوم رقم 279-94-2،[5] الذي صدر بناء على الفصل 43 المكرر من الظهير رقم 008-58-1، وقد استندت في ذلك إلى اعتبار قانون الوظيفة العمومية ونصوصه التطبيقية شريعة عامة يخضع لها جميع العاملين في مرافق الدولة، بما فيهم ذوي الأنظمة الأساسية الخاصة.

في نفس الوقت نشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 28 دجنبر 2017 مرسوم يتعلق بالخريطة القضائية،[6] بناء على مقتضيات قانون التنظيم القضائي للمملكة الذي يعيش آخر أيامه، كما أصدر الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية قرارين يتعلقان بحصر لوائح الترقية من رتبة إلى رتبة أعلى.[7]

في هذا البحث سنناقش بداية مدى دستورية ما سارعت المرسوم المتعلق بوضع الخريطة القضائية، قبل مناقشة دستورية الحلول المعتمدة فيما تأخر صدوره وهي النصوص التنظيمية المتعلقة بتطبيق القانون الأساسي للقضاة.

أولا: مدى دستورية رسم الخريطة القضائية بموجب مرسوم

أصدرت الحكومة بتاريخ 7 دجنبر 2017 مرسوم رقم 2.17.688[8] بتغيير المرسوم رقم 2.74.498 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، والذي يهم الخريطة القضائية.

وصدور هذا المرسوم جاء بناء على الفصل الأول من التنظيم القضائي للمملكة الذي ينص في فقرته الأخيرة على أنه تعين مقار المحاكم ودوائر نفوذها بمقتضى مرسوم، وبناء ايضا على اعتقاد راسخ لديها بأن رسم الخريطة القضائية يدخل في المجال التنظيمي بدليل أن المادة الثانية من مشروع التنظيم القضائي الجديد[9] نص على أن تحديد الخريطة القضائية وتوزيع المحاكم على التراب الوطني تتم بمرسوم، بعد استطلاع رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذلك نصت المادة 3 من نفس مشروع القانون على أنه يمكن إحداث غرف ملحقة بمحاكم ثاني درجة في نطاق دائرتها القضائية بمرسوم بعد استطلاع رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية.

إلا أن هذا التوجه في تصورنا لم يعد يلائم الوضع الدستوري الحالي، ذلك أنه اذا كان وضع الخريطة القضائية قبل صدور دستور 2011 يستند إلى الفصل 46 و47 من دستور 1996، بحيث كان الفصل 46 المتعلق بمجال القانون الذي كان يعتبر احداث أصناف جديدة من المحاكم يدخل في مجال القانون،[10] فيما يدخل في المجال التنظيمي إحداث محاكم جديدة وإلغاؤها داخل نفس الأصناف الموجودة ورسم دوائرها الترابية، فإن هذه القراءة لم تعد تستقيم بعد صدور 2011، ذلك أنه إذا كان الفصل 71 من الدستور احتفظ بالصيغة التي كانت موجودة في الفصل 46 من الدستور السابق، واعتبر احداث أصناف جديدة يدخل في مجال القانون، فإن الفصل 127 ينص على أنه “تحدث المحاكم العادية، والمتخصصة بمقتضى القانون”، وبقراءة الفصلين معا نخلص إلى ما يلي:

إن إحداث أصناف جديدة من المحاكم منصوص عليه في الفصل 71 ولا نعتقد بأن يكرر الدستور نفس المقتضى في الفصل 127، إلا إذا كان يهدف إلى إضافة مقتضى جديد.

عبارة “إحداث المحاكم” التي جاءت في الفصل 127 جاءت بصيغة مرسلة ولم تقيد بالصنف ولا يجوز لنص أدنى أن يقيد نصا أعلى خاصة إذا كان النص الأعلى هو النص الدستوري نفسه.
ينص الفصل 127 على أن إحداث محاكم جديدة عادية ومتخصصة يتم بموجب القانون، ومادام أن المحاكم العادية هي المحاكم ذات الولاية العامة، وهي محاكم لا يوجد منها إلا صنف واحد، وإلا اعتبرت محكمة متخصصة، فإن المعنى هنا ينصرف إلى احداث محاكم ضمن الأصناف الموجودة.
وعليه يكون معنى الفصل المذكور ينصرف إلى أن إحداث المحاكم، نوعيا أو ترابيا خاضع لمجال القانون، ويكون المرسوم 2.17.688، وما جاء بهذا الخصوص في مشروع التنظيم القضائي خاصة المادة 1 منه مخالف لنص الدستور.

بقي أن نشير من جهة ثانية ـ وبصرف النظر عن دستورية المرسوم ـ نلاحظ أن مشروع المرسوم الحالي، تم دون استشارة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، على الرغم من أن إصدار مرسوم من هذا النوع يستوجب استشارة المجلس الاعلى للسلطة القضائية، مادام أن هذا الأخير هو المسؤول عن تعيين القضاة بالمحاكم التي تم إحداثها، وتعيين مسؤوليها، أو نقل القضاة الذين ألغى المرسوم المحاكم التي يعملون بها، طبقا للمادة 72 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.

ولهذه الغاية فقد نصت المادة 54 من القانون المجلس الأعلى على احداث هيئة مشتركة بين المجلس والوزارة المكلفة بالعدل، فماذا سيكون دور هذه اللجنة إذا لم تناقش تعديل الخريطة القضائية، كما أن انفراد السلطة التنفيذية بوضع الخريطة القضائية دون الرجوع إلى المجلس قد يبشر بعدم التجاوب بين السلطة التنفيذية والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، إذ يمكن للمجلس أن يتماطل في تعيين مسؤولي وقضاة هذه المحاكم.

وما يدفعنا للقول بهذا الرأي أن مشروع قانون التنظيم القضائي للمملكة نص في صلب المادة الثانية على ضرورة استطلاع رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية قبل إصدار المرسوم، وإن كنا نرى أن عبارة “استطلاع رأي” غريبة على اللغة القانونية، ولا ندري ما الحكمة التي من أجلها استعاض المشرع بهذه العبارة عن عبارة “استشارة” التي كانت موجودة في صياغة نفس لمادتين من مسودة القانون،[11] علما أن هذه الأخيرة أوضح دلالة في اللغة القانونية من عبارة استطلاع رأي.

ثانيا: إشكالية الفراغ على مستوى النصوص التنظيمية المتعلقة بتطبيق
القانون الأساسي للقضاة

القاضي هو موظف عمومي لكونه شخص يعمل بصفة دائمة في مرفق القضاء الذي تديره الدولة،[12] لكنه لا يخضع لقانون الوظيفة العمومية الذي استثناه صراحة بموجب الفصل 4 منه إذ يخضع لنظام أساسي خاص به، وإلى هنا يبدو أننا بصدد نقاش محسوم بداهة.

لكن ما نعتقد أنها قضية محسومة تخفي أهم الإشكاليات المطروحة بخصوص النظام القانوني المتعلق بتدبير الحياة المهنية للقضاة، ذلك أن الباحث في هذا المجال سيتنبه إلى وجود فراغ قانوني خطير ليس على مستوى القانون الأساسي نفسه بل على مستوى النصوص التنظيمية المتعلقة بتنفيذ مقتضياته.
سنتطرق بداية بإشكالية الفراغ المتعلق بنظام الرخص قبل التطرق لإشكالية الفراغ المتعلق بنظام بالترب والترقية فيها.

إشكالية الفراغ بخصوص النصوص التنظيمية المتعلقة بنظام الرخص:
يحيل القانون الأساسي الجديد في شان مختلف الرخص على نصوص تنظيمية سيتم إصدارها،[13] ورغم مرور ازيد من سنة ونصف فإن المرسوم لم يصدر لحد الآن.

وإذا ما انتبهنا إلى أنه رغم مرور ما يقارب ستة عقود عن صدور أول نظام أساسي للقضاة، ولم يسبق أن صدر أي نص تنظيمي يتعلق بنظام الرخص تطبيقا للقانون الأساسي للقضاة، فإن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: كيف كانت تدبر الوضعيات الإدارية للقاضي في غياب هذه النصوص؟ وماهي الحلول التي كان معمولا بها في إطار النظام الأساسي السابق؟ وهل من الممكن مواصلة العمل بهذه الحلول؟ أم أننا ازاء وضع قانوني جديد يفرض عدم تطبيق هذه المواد التي يتوقف تنفيذها على صدور نصوص تنظيمية إلى حين صدور هذه النصوص؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وعن الإشكالات التي يطرحها في ظل القانون التنظيمي الجديد، وجب المرور أولا من الكيفية التي كان يعالج بها هذا الإشكال في ظل القوانين الأساسية السابقة.

1 – الحل المعتمد في ظل الأنظمة الأساسية السابقة

سنميز بهذا الخصوص بين الوضع القانوني في ظل القانون الأساسي للقضاة الصادر بتاريخ 30/12/1958 والوضع في ظل القانون الأساسي المؤرخ في 11/11/1974.

أ – الحل المعتمد في ظل ظهير 30/12/1958

اختار المشرع عند إصدار أول نظام أساسي للقضاة بتاريخ 30 دجنبر 1958[14] أن يحيل في مواضع على أحكام القانون الأساسي للوظيفة العمومية، وهكذا نجد فيما يتعلق بشروط التعيين في سلك القضاء[15] وأحكام وضعية القيام بالمهام[16] والإلحاق[17] وغيرها من المواضع،[18] ولم يكن يستثني إلا ما يتعارض مع القانون الأساسي للقضاة نفسه،[19] أو ينص على استبدال استشارة اللجنة المتساوية الأعضاء بالمجلس الأعلى للقضاء.
ولقد كان استعمال هذه التقنية[20] يجنب – في شأن تدبير الحياة المهنية للقضاة – وجود فراغ قانوني، ذلك أن الإحالة على هذه المقتضيات كان يحيل بالضرورة على المقتضيات التنظيمية المتعلقة بها.

ب – الحل المعتمد في ظل ظهير 11/11/1974

نهج ظهير 11/11/1974 اتجاها مخالفا لسابقه، إذ لم يقم بالإحالة على قانون الوظيفة العمومية ولا على أي نص تنظيمي، وحاول أن يعالج كل المواضيع وأن يعطي لها حلولا انطلاقا منه،[21] مما أحدث فراغا هائلا على مستوى المساطر الواجب اتباعها في مختلف المواضيع، وكذلك تقديم الإجابات القانونية عن مختلف الإشكالات.[22] وهو المشكل الذي واجهته المصالح الإدارة المركزية لوزارة العدل وكذلك مصالح وزارة المالية المطالبتين بمعالجة هذه الوضعيات ترتيب آثارها القانونية عليها.

ولأنه لا يمكن لقاضية على وشك الولادة أو قاض يعجزه المرض عن العمل انتظار صدور هذه النصوص، إذ لا يمكن أن تقف حركة الحياة إلى أن يتحرك المشرع، لأن الإدارة ـ كما أن الطبيعة ـ لا تقبل الفراغ خاصة وان هناك ضوابط على الآمرين بالصرف والمحاسبين العموميين اتباعها،[23] فقد تبنت حلا يتمثل في اخضاع القضاة للنصوص التنظيمية المتعلقة بقانون الوظيفة العمومية مستندة في ذلك إلى اعتبار النظام الأساسي للوظيفة العمومية يمثل شريعة عامة لجميع موظفي الدولة بما فيهم أصحاب الأنظمة الخاصة.
لقد بقي معمولا بهذا الحل طيلة أربعين سنة إلى أن صدر القانون التنظيمي عدد 106.13
فهل يجوز أن نستصحب الموقف السابق على القانون الحالي؟

2 – هل من الممكن استمرار العمل بنفس الحلول في ظل قوانين السلطة القضائية

خالف القانون التنظيمي عدد 106.13 نهج سابقه وأحال في عدة مواضيع على نصوص تنظيمية كما قدمنا.[24] وهذه النصوص لم يتم إصدارها لذلك فقد عملت الإدارة بنظرية ملء الفراغ التي ألفتها منذ ما يزيد عن أربع عقود، واستصحبت حكمها القديم واعتبرت أن قانون الوظيفة العمومية لا يزال يشكل شريعة عامة لجميع موظفي الدولة بما فيهم القضاة.

وإذا أردنا أن نقيم هذا التوجه قلنا أننا نتفهمه بالنظر أولا إلى المبررات العملية التي سقناها سلفا، ثم بالنظر إلى أن استثناء القضاة من قانون الوظيفة العمومية تبرره خصوصية عملهم القائم على الاستقلالية التي تستوجب سن مقتضيات خاصة بتعيين القضاة ونقلهم وتأديبهم تحصن استقلال القاضي، لكن هذه الاستقلالية لا تبرر وضع مقتضيات خاصة برخص المرض أو رخصة المرأة الحامل أو رخصة أداء فريضة الحج مثلا.

إلا أن كل هذه المبررات لا تسمع بالتغاضي عن قضية أكثر خطورة، تتمثل في كون القانون الاساسي للقضاة الحالي هو قانون تنظيمي، ولا يمكن بداهة أن يعتبر قانون عادي شريعة عامة لقانون تنظيمي أسمى منه في ترتيب التشريع.
لذلك لم يعد من الممكن الاستمرار بالحلول القديمة واسراع الحكومة بإصدار قوانين تنظيمية بهذا الخصوص أضحت مسألة ملحة.
II – إشكالية الفراغ على مستوى النصوص التنظيمية المتعلقة بنظام الرتب وأرقامها الاستدلالية والترقية فيها.

يتعلق الأمر بالمادة 6 والمادة 32 اللتين نصتا على صدور نصوص تنظيمية تحدد الرتب التي تشتمل عليها كل درجة والأرقام الاستدلالية المطابقة لها وكيفية الترقية فيها، ولم تصدر إلى الآن هذه النصوص التنظيمية
سنتطرق بداية لإشكالية الفراغ على مستوى تحديد الرتب والأرقام الاستدلالية التي تقابلها، قبل التطرق لإشكالية كيفية الترقية في الرتب.

1 ـ اشكالية الفراغ على مستوى النصوص التنظيمية المتعلقة بنظام الرتب وأرقامها الاستدلالية.

حددت المادة 6 من القانون الأساسي الدرجات التي يرتب فيها القضاة ثم أضافت على أنه تحدد بنص تنظيمي الرتب الذي تشتمل عليها كل درجة وتسلسل الأرقام الاستدلالية المطابقة لها.
والرتب ونسق الترقية فيها محددة بموجب مرسوم رقم 2.75.883.[25] أما الأرقام الاستدلالية المقابلة لها فمحددة بموجب مرسوم رقم 2.75.174.[26] ودخول المادتين 6 و32 من القانون الأساسي الجديد حيز التنفيذ، وتنصيصه بصيغة المستقبل على تحديد الرتب وأرقامها الاستدلالية وكيفية الترقية فيها بنصوص تنظيمية، مع عدم اشتمال القانون الأساسي على أي مقتضى انتقالي بهذا الشأن يعني أن المراسيم المذكورة أضحت منسوخة بحكم القانون، أما بحكم الواقع فإنها لا تزال سارية المفعول وعلى أساسها يتقاضى القضاة أجورهم الشهرية.

ويتقابل هذا المقتضى مع المادة 26 التي تنص على تقاضي القضاة الأجرة تشمل المرتب والتعويضات العائلية والتعويضات الأخرى كيفما كانت طبيعتها المحدثة بموجب النصوص التنظيمية الجاري بها العمل، وعليه تكون هذه المادة قد جاءت بصيغة الماضي وأعطت المشروعية لاستمرار العمل مرسوم 2.75.175 المحدد للتعويضات والمنافع الممنوحة للقضاة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة،[27] ومرسوم رقم 2.96.914 صادر في 29 يناير 1997 بتحديد التعويضات والمنافع الممنوحة للقضاة من الدرجة الاستثنائية.[28]

وعليه فإن الفراغ الناتج عن دخول المادة 6 من القانون الأساسي حيز التنفيذ لا يشمل سوى الأجر الأساس الذي يتم احتسابه على أساس الرقم الاستدلالي المطابق للرتبة والدرجة التي يشغلها القاضي.
2 ـ الفراغ على مستوى النصوص التنظيمية المتعلقة في الترقية في الرتب
تقوم الترقية في الرتب على التقييم السنوي الذي يحصل عليه القاضي والذي يحدد هل سيستفيد من الوتيرة السريعة أو المتوسطة أو بالأقدمية، وهو ما كان ينص عليه في الفقرة 6 من الفصل 23 من النظام الاساسي المنسوخ، والمرسوم رقم 2.75.883.

وعلى الرغم من أن المادة 32 لم تتضمن مقتضى شبيه بالمقتضى الذي كان مضمنا والذي كان ينص على أن الترقية في الرتب والدرجات تتم بناء على الأقدمية والنقط التي حصل عليها القاضي، فإنه مما لاشك فيه أن طريقة ترقية القضاة في الرتب لن تختلف من حيث الجوهر عن النظام السابق.
إلا أن ذلك لا يمنع من أن القانون الاساسي الجديد لم ينص على كيفية ترقية القضاة في الرتب ولا أنساقه، إذ أحالت المادة 32 منه على النصوص المتخذة لتطبيقه، وهذه المادة وردت بصيغة المستقبل.

وعليه نحن هنا أمام فراغ قانوني، يفرض اختيار إحدى الاجابتين :
الأولى: تجميد ترقيات القضاة إلى حين صدور نص تنظيمي جديد يحدد أنساق الترقي في الرتب وكيفية الترقية فيها، وهذا الحل فيه اضرار بالقضاة ومن شانه أن يهدد السير العادي لمرفق القضاء.

الثاني: ترقية القضاة بناء على مرسوم رقم 2.75.883 المؤرخ في 23 دجنبر 1975، الصادر تطبيقا للنظام الأساسي المنسوخ، وهذا الحل فيه مخالفة للمادة 32 من القانون الأساسي التي نسخت بتنصيصها على صدور نص تنظيمي جديد مقتضيات المرسوم السالف الذكر، كما فيه خرق لمقتضيات الدستور وللقوانين التنظيمية الصادرة بناء عليه، والتي نزعت من وزير العدل صلاحية اتخاذ قرارات تتعلق بتدبير الوضعيات الإدارية للقضاة، بالنظر إلى أن الفصل 10 من المرسوم المذكور ينص على أن ترقية القضاة تتم بناء على قرار وزير العدل.

إلا أن المجلس اختار العمل بحل ثالث، تمثل في أن أصدر الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للقضاء قرارين بتاريخ 21/11/2017 يتعلقان بحصر لائحة الترقية في الرتب برسم سنتي 2016 و2017،[29] دبجا بالمادة 32 من القانون الأساسي للقضاة ومرسوم 2.75.883. ولنا على القرارين الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: أن القرار تم بناء على مرسوم سابق للقانون التنظيمي المتعلق بالقانون الأساسي للقضاة، في الوقت الذي جاءت فيه المادة 32 بصيغة المستقبل كما لا يعقل أن يكون النص التطبيقي أسبق من النص المطبق.
الملاحظة الثانية: أن الفصل 10 من المرسوم المذكور ينص على أن ترقية القضاة تتم بناء على قرار وزير العدل، ولا نجد أي مقتضى قانوني ينص على حلول الرئيس المنتدب محل وزير العدل في اتخاذ القرارات بترقية القضاة في الرتب.
الملاحظة الثالثة: إذا استندنا إلى أن القاعدة العامة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من الفصل 113 من الدستور والمادة 65 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس، اللذين ينصان على أن المجلس يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم، فإنه بالمقابل لا يوجد مقتضى يمنح للرئيس المنتدب صلاحية اتخاذ هذا القرار بشكل فردي دون المجلس.

الملاحظة الثالثة: أن القرارين المشار إليهما أعلاه نصا على حصر لائحة الترقية في الرتب، والحال أنه طبقا للمرسوم المذكور وفي إطار القواعد العامة تصدر الترقية بموجب قرارات فردية، ولا يوجد أي مقتضى قانوني ينص على أن الترقية في الرتب تتم بموجب لوائح.
الملاحظة الرابعة: أنه في حال صدور مرسوم جديد يغير من أنساق الترقي المعمول بها في المرسوم الحالي فإننا سنكون أمام احتمالين الأول: أن يكون نسق الترقي في الرتب الجديد أفضل للقاضي من النسق الحالي، وعليه يكون أفيد بالنسبة للقاضي الانتظار إلى حين صدور هذا النص التنظيمي ويستفيد منه بأثر رجعي من أن يخضع للمرسوم الحالي وتفوت عليه فرصة الاستفادة من نسق الجديد، الاحتمال الثاني أن يكون النسق القديم أفيد للقاضي من النسق المضمن في المرسوم الذي سيصدر، وهنا سيعارض القاضي خضوعه لهذا المرسوم بأثر رجعي ويتمسك بأنه اكتسب الحق في الترقية في ظل القانون السابق.

بقي أن نشير إلى أنه من الناحية المبدئية فإنه لا مؤشر على نية المشرع الأصلي والفرعي على إجراء أي تغيير في أجور ترتيب القضاة ولا على كيفية ترقيتهم، ليس فقط لاستمرار العمل بهذه النصوص بل لكون المادة 33 اشترطت بلوغ الرتبة الخامسة للتسجيل في لائحة الأهلية للترقي للدرجة الثانية بدل بلوغ الرتبة السادسة المنصوص عليها في الفصل 23 من ظهير 11/11/1974، وهو المقتضى الذي لن يستفيد منه إلا القضاة الذين عينوا بسلك القضاء بعد نشر القانون الأساسي بالجريدة الرسمية.

خاتمة

تمر عملية الانتقال من تعثرات نتيجة غياب برنامج واضح لعمل الجهاز التشريعي والتنفيذي والقضائي، وفي سياق الانتقال المضطرب هذا تواجه الإدارة عدة مشكلات، فلا تجد من سبيل سوى أن تقدم حلولا هشة من حيث تأسيسها القانوني لكن تتحقق بها المصالح.

إن المشكلة التي نواجه الآن مشكلة شكل أكثر منها مشكلة جوهر، فتحديد مقار المحاكم ودوائر نفوذها يدخل في المجال التنظيمي بامتياز بالنظر إلى طبيعته، وإخضاع القاضي لنظام أساسي خاص يجد مبرره في حماية استقلاليته دون أن تبرر تمييزه في لائحة الامراض عن باقي الموظفين، أما نظام الرتب وأرقامها الاستدلالية والترقية فيها فلا مؤشر على حدوث أي تغيير في مضمونها.

تجاوز هذه المشكلة لا يتطلب أكثر من الربط القانوني بين التصرف والقانون، كصدور قانون يرسم معالم الخريطة القضائية بشكل عام ويخول للحكومة تسمية مقارها ودوائر نفوذها، وصدور نصوص تنظيمية جديدة أو على الأقل سن مقتضى قانوني يربط بين النظام الأساسي للقضاة والنصوص التنظيمية الجاري بها العمل بحكم الواقع.

إن قضية استمرار سير المؤسسات وجودة أدائها وحماية مصالح العاملين بها رغم أهميتها يجب ألا تتحقق على حساب المشروعية، ففي قضية عمل مؤسسات الدولة مسألة الشكل لا تقل أهمية عن مسألة الجوهر، إذ يجب أن تخضع تصرفات الدولة وأجهزتها دائما إلى المشروعية القائمة على احترام القانون واحترام تدرج القانون، كما يجب أن تقوم وظائف الدولة على فصل السلط وتعاونها على أسس من العقلنة والنجاعة.

 

(محاماه نت)

إغلاق