رأي عام

الانفراد بالسلام

حلمي النمنم .

أبدى عدد من السادة القراء دهشتهم البالغة من انفراد الرئيس عبد الناصر بقبول مبادرة روجرز للسلام، بينما رفضها، فى بداية الأمر، نائب
رئيس الجمهورية أنور السادات، وكان، فى ذلك الموقف، فى خندق واحد مع على صبرى وقادة الاتحاد الاشتراكى، من حسن الحظ أن الرئيس السادات ذكر هذه الواقعة مرارًا فى العديد من خطبه وأحاديث ذكرياته، ثم دونها فى سيرته الذاتية «البحث عن الذات»، مصدر الدهشة لدى أستاذ جامعى فاضل أنه لم يتصور ولا خطر بباله أن يكون لدى عبد الناصر، أى توجه للسلام، وأنه كان يريد الحرب مع إسرائيل إلى النهاية، وكذلك لم يتصور أن السادات كان يمكن أن يرفض أى بصيص نحو السلام، والمؤكد أن تلك هى الصورة الذهنية التى ترسخت عن عبد الناصر وعن السادات أيضا، رسخ الإعلام تلك الصورة غير الدقيقة لكل منهما.
مصر عبد الناصر لم يكن لديها فى أى يوم خطة هجوم على إسرائيل، ويمكننا أن نقول ذلك عن زمن الملك فاروق أيضًا، دخول القوات حرب ٤٨، لم يكن بقصد إزالة إسرائيل من الوجود، كما هو سائد لدى المصادر الإسرائيلية والغربية، دخلت القوات العربية بعد أن اعتدت إسرائيل على بعض المناطق المخصصة للعرب فى قرار التقسيم، وكان الهدف حمايتهم فقط، يقول دعاة المشير عامر إنه كانت هناك خطة هجومية قبل الخامس من يونيو وأن الرئيس أمر بإلغائها، وهو قول ليس هناك ما يثبته، المشكلة أنه لم تكن هناك حتى خطة دفاعية، وهذا ما تجرعناه صبيحة الخامس من يونيو، والتفاصيل هنا كثيرة وموجعة، يتحمل مسؤوليتها الجميع كل فى اختصاصه وموقعه.

بعد ٦٧، صارت لدينا خطة دفاعية، وصار لدى مصر تصور متماسك للسلام، نجده كاملًا وبتفصيل شديد فى لقاء عبد الناصر بالقادة السوفييت فى موسكو، يوم الخامس من يونيو ١٩٦٨، بحضور رئيس مجلس الأمة أنور السادات ومحمود رياض وزير الخارجية والفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصرى ومراد غالب السفير فى موسكو، وأنا أعتمد هنا على محضر الاجتماع فى نسخته الروسية، ترجمة زينب عطا، وقامت بالنشر المؤسسة المصرية للثقافة والعلوم.

تم الخوض فى هذه القضية بعد حديث مطول عن الوضع العسكرى على الجبهة، ذكر فيه عبد الناصر الكثير، وأسعفه بألق شديد عبد المنعم رياض الذى كان جاهزا بالتفاصيل عن وضع الجيش المصرى وكذلك الجيش الإسرائيلى الذى كان أكثر تفوقًا فى التسليح والتدريب، وهنا طرح «بريجنيف» السؤال العريض: كيف تقيمون احتمالات حل أزمة الشرق الأوسط؟، وكان رد عبد الناصر.. «سنواصل السير على طريق التسوية؛بالطبع الحرب ليست بالأمر السهل وإسرائيل لديها قوة قتالية كبيرة..»، ثم راح يشرح تفاصيل تلك القوة، وفقا للمعلومات المتوفرة لديه، ثم يعود إلى الحل السلمى بالتأكيد على «أننا سنعمل حتى نتوصل إلى التسوية السلمية، ولكن على أساس أننا لن نتراجع عن شبر واحد من الأراضى العربية، وكما تعلمون فإن هناك دولتين عربيتين فقط، هما الجمهورية العربية المتحدة والأردن، اللتين تقبلان مبدأ التسوية السلمية»، وأضاف أيضا «لا يمكننا الموافقة على إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل». ويستدرك عبد الناصر قائلا «نعتقد أنه بالتزامن مع تنفيذ إجراءات تحقيق التسوية السلمية من الضرورى إعداد القوات المسلحة بكل السبل الممكنة، لاحتمال استئناف الأعمال العدائية».

لم يكن عبد الناصر متفائلا بالمسار السلمى ولا يتوقع أن تستجيب إسرائيل وتنسحب من الأراضى العربية التى احتلتها فى يونيو ٦٧، عدم التفاؤل مبنى على أمرين، بنص كلامه «أولا أن إسرائيل لم تحقق هدفها السياسى بعد، ثانيا أن الدول العربية غير مستعدة للقيام بعمليات عسكرية»، وفيما يشبه النبوءة قال فى نفس الاجتماع «إن إسرائيل مستعدة لابتلاع كامل للأراضى التى احتلتها بعد ٥ يونيو٦٧».

وفى الشرح ذكر عبد الناصر أن إسرائيل حققت هدفًا عسكريًا، لكنها لم تصل بعد إلى الهدف السياسى من وراء النصر العسكرى، وهو كسر وإسقاط النظم والدول المناوئة لها، ثم الدخول فى استفادة اقتصادية من الدول العربية، يضاف إلى ذلك أنه لا يوجد ضغط عسكرى عربى عليها، يقول «إن إسرائيل لا يمكنها أن تنسحب من الأراضى المحتلة فى حالة عدم تحقيق هدفها الجوهرى؛ ألا وهو تقويض الأنظمة التقدمية فى الدول العربية، وتولية الحكومات الضعيفة الموالية للغرب ولإسرائيل السلطة، الأمر الذى من شأنه أن يفتح الأبواب أمام التوسع الاقتصادى الإسرائيلى»، ويضيف مؤكدًا مرة أخرى «تدرك إسرائيل أننا لسنا مستعدين لاستئناف العمليات القتالية، وبالتالى لا يوجد سبب يدعو إسرائيل إلى التسرع فى سحب قواتها».

على هذا النحو كانت أسئلة بريجنيف، ثم طرح سؤالا آخر، جاء نصه كالتالى: هل لديك أى اتصالات مع إسرائيل؟.

وكان رد ناصر «لقد اتصلنا بالإسرائيليين مرتين بشكل غير مباشر».

وراح يشرح ملابسات المرتين، الأولى كانت عبر الرئيس تيتو، حيث اتصل به «ناحوم جولدمان» رئيس المؤتمر اليهودى العالمى، وأبلغه أن الغالبية فى الحكومة الإسرائيلية تريد السلام رغم وجود جناح متشدد بها، المرة الثانية كانت مع جولدمان أيضًا، حيث زار نائب وزير خارجية رومانيا القاهرة يحمل رسالة مشابهة من جولدمان؛ بعد ذلك بتسع سنوات حين ذهب الرئيس السادات إلى إسرائيل (نوفمبر ٧٧)، كانت رومانيا لعبت دورًا فى التهيئة لتلك الزيارة، هذه المرة لم يكن عبر نائب وزير الخارجية، بل الرئيس الرومانى «نيكولاى شاوشيسكو» نفسه ومع رئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين والرئيس السادات، الواضح أن الرئيس السادات حافظ على قناة الاتصال الرومانية.

كان بريجنيف يطرح الأسئلة العامة، أما «الكسى كوسيجين»، رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى عضو المكتب السياسى للحزب الشيوعى، فراح يسأل عن تفاصيل التفاصيل فى احتمالات السلام، كانت ملاحظته أن القرار ٢٤٢، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، شديد العمومية، ولم يناقش الكثير من التفاصيل، لذا راح يستفسر عن كافة التفاصيل وكأن هناك مشروعا للسلام يجرى وضعه. من التفاصيل أن ناصر يرفض التفاوض المباشر مع إسرائيل، فكيف يتحقق السلام، ويرد عليه عبد الناصر أن التفاوض سوف يكون عبر وسيط، هو الأمم المتحدة، يسمعون منا ثم يذهبون إلى الإسرائيليين وهكذا، لكن لا معاهدة سلام مع إسرائيل بشكل مباشر فى سياق آخر سوف يشبه عبدالناصر الأمر بتفاوض سنة ١٩٤٩، لتحقيق الهدنة عقب حرب ٤٨.

وبعد أخذ ورد بين عبد الناصر وكوسيجين، يطرح الأخير السؤال الفيصل ويتعلق بما يمكن أن يقدمه من تعهدات والتزامات للسير قدمًا فى عملية السلام، ومن ثم يحدد الاتحاد السوفييتى خطواته فى هذا الملف، وهنا يضع عبد الناصر ما يلى (صفحة ١١٣، ١١٤، من الترجمة العربية):

– حق كل دولة فى الوجود.

– إنهاء حالة الحرب بعد إتمام انسحاب القوات الإسرائيلية.

– الاتفاق على حدود آمنة.

– حرية الملاحة فى خليج العقبة.

– حرية الملاحة فى قناة السويس مع حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين فى الوقت نفسه وفقًا لقرارات الأمم المتحدة.

– حرية نقل البضائع الإسرائيلية عبر قناة السويس بعد انسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة.

ويطلب كوسيجين شرحا مدققا عن عبور السفن الإسرائيلية القناة، أثناء انسحاب القوات الإسرائيلية أم بعدها؟، وهنا يبدى عبد الناصر بعض المرونة، ويتوقف كوسيجين ثم «نيكولاى بدجورنى» عند الملف الفلسطينى، حاول كوسيجين أن يفهم لما يجمع عبد الناصر الشأن الفلسطينى مع أمور قنا السويس والملاحة بها، عنده أنهما منفصلان، أزمة ١٩٤٨ منفصلة عن أزمة ٦٧ ونتائجها، فيشرح عبد الناصر أن أساس المشكلة هو أزمة الفلسطينيين وبدون حلها سوف تبقى المشكلة قائمة بالمنطقة، ويقدم رئيس الوزراء السوفيتى اقتراحا مفاده، ماذا لو دفعت إسرائيل تعويضات مالية إلى اللاجئين الفلسطينيين، ويتم توطينهم فى مكان ما، هل يحل ذلك المشكلة؟، لم يذكر أين يكون التوطين، لكن على وجه القطع لن يكون داخل إسرائيل، لأنها رفضت ذلك مطلقا، وهو ما ذكرهم به عبد الناصر، كما أن التوطين لن يكون داخل مناطق الاتحاد السوفيتى، على الأغلب- إن تم- سيكون داخل الدول العربية، خاصة تلك التى للسوفييت تأثير عليها؛ وربما هذا ما دفع ناصر إلى التأكيد أن مثل هذا الخيار لن يقبل به الفلسطينيون، هنا يلفت بدجورنى انتباه رفاقه السوفييت إلى أن بعض المنظمات الفلسطينية بدأت تطالب بدولة فلسطينية مستقلة.

الحديث ممتد.

المصدر : المصري اليوم

إغلاق