دراسات قانونية

الإجماع في بناء التشريعات وتحقيق سيادة الأمة وأهميته (بحث قانوني)

د. محمد ورنيقي د.عبد الحق الإدريسي

جامعة الأغواط-الجزائر دار الحديث الحسنية – الرباط – المغرب

Abstract:

Senhuri took a great interest in elucidating how Shari āa is distinct from Western legal systems, and how Islamic jurisprudence outmatches secular law not only in terms of legislative philosophy durability and jurisprudential drafting firmness, but also in terms of Shariāa’ ability to accommodate legislative needs. He also called for actuating consensus proof and relying on it as an essential source of legislation in unprecedented events/cases generated by social change. He indeed related the launch of discretion to the actuation of the consensus basis.

Infact, Senhuri stressed out the importance and value of consensus in the achievement of Shariāa’ flexibility, evolution, appropriateness to all times and places and its ability to accommodate novelty and changes. The actuation of consensus/unanimiy, according to him, can provide the state with the legislations and laws which are necessary for organizing society.

ملخص
اهتم السنهوري ببيان تميز الشريعة الإسلامية عن المنظومات القانونية الغربية، وتفوق الفقه الإسلامي عن القانون الوضعي، سواء من حيث متانة فلسفة التشريع، أم قوة الصياغة الفقهية، أم في قدرة الشريعة على مواكبة الحاجيات التشريعي،كما دعا إلى تفعيل وإعمال دليل الإجماع والاعتماد عليه كمصدر هام للتشريع في الوقائع المستحدثة التي يفرزها التغير الاجتماعي، فقد ربط بين فتح باب الاجتهاد وتفعيل أصل الإجماع.

فقد نبه السنهوري على أهمية الإجماع وقيمته، في تحقيق مرونة الشريعة وتطورها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وقدرتها على مواكبة كل المستجدات والمتغيرات، إذ من شأن إعماله وتفعيله تزويد الدولة بالتشريعات والقوانين اللازمة لتنظيم المجتمع.

الكلمات المفتاحية: السنهوري، الإجماع، التشريع، سيادة الأمة.

مقدمة

كثير من الباحثين اهتموا بالإجماع وأدركوا أهميته في تجديد الفقه والتشريع الإسلامي، وقيمته وفعاليته في تزويد المجتمعات بالتشريعات اللازمة لتدبير شؤون الاجتماع البشري، فقد عول كثير منهم في إعمال التشريع على “الإجماع”، وذلك بعد انتقادهم وتقييمهم لمفهوم الإجماع الأصولي، ومنهم الفقيه الدستوري والقانوني الدكتور عبد الرزاق السنهوري.

فقد نبه السنهوري على أهمية الإجماع وقيمته، في تحقيق مرونة الشريعة وتطورها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وقدرتها على مواكبة كل المستجدات والمتغيرات، إذ من شأن إعماله وتفعيله تزويد الدولة بالتشريعات والقوانين اللازمة لتنظيم المجتمع.

كما نبه على أهمية الإجماع من حيث تحقيقه لمبدأ سيادة الأمة وسلطتها في التشريع، ومن حيث ارتباطه بالشورى وبنظام الحكم النيابي، وهو ما يجعل أطروحة السنهوري في غاية الأهمية والجدة، لأنها تكشف عن الارتباط الوثيق بين الفكر الأصولي والفكر السياسي من خلال مصطلح “الإجماع”. الأمر الذي يستدعي في نظره ضرورة البحث عن دور الإجماع في نظام الحكم الإسلامي، وعلاقته بمبدأ الشورى والحكم النيابي.

المسألة الأولى: مكانة السنهوري في الدراسات الشرعية والقانونية

لا يحتاج العلامة والخبير القانوني والدستوري الدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى تعريف أو ترجمة، لأن المعروف لا يعرف، لكن جهل أو تجاهل الباحثين في العلوم الشرعية بجهود السنهوري في تجديد الفقه وإحياء الاجتهاد، أو اهتمامه بأسلمة القانون والمدنية والعمران، يجعل التعريف به وبجهوده أمرا ضروريا.

فقد كانت رسالته وهدفه الأساس هو بعث الشريعة الإسلامية بالتجديد والاجتهاد، وكان مشروعه العلمي هو إعادة الشريعة والفقه الإسلاميإلى موقع الحاكمية والمرجعية في التشريع والقانون والقضاء لتنظيم شؤون الاجتماع الإنساني، وأسلمة القانون والمدنية والعمران، في كل ميادين الحياة التشريعية والسياسية والثقافية والفكرية والعلمية…، كما كان الأمر قبل طغيان المنظومات القانونية الغربية.

كما يعتبر مجدد الدراسات القانونية، ومؤسس حركة التقنين الحديثة في البلاد العربية، ورائد الدراسات القانونية المقارنة، فقد اهتم بعلم التقنين وفلسفة التشريع، ومنهجية بناء القوانين، ومقارنة النظم القانونية بالمنظومة الفقهية، صياغة ودراسة وتدريسا وتأليفا.

أولا: التعريف بالسنهوري (1895-1971)

ولد بالإسكندرية في غشت سنة 1895م، وبها تابع تعليمه الابتدائي والثانوي والجامعي، حصل على شهادة الليسانس سنة 1917م، وعُين بسلك القضاء بعد تخرجه من مدرسة الحقوق، ثم مدرساً للقانون بمدرسة القضاء الشرعي سنة 1920م، سافر إلى فرنسا في بعثة علمية لدراسة القانون، فحصل من جامعة ليون على درجة الدكتوراه مرتين: الأولى في الحقوق عام 1925م عن رسالته “القيود التعاقدية الواردة على حرية العمل في القضاء الإنكليزي“، والثانية في العلوم السياسية عام 1926م عن رسالته “فقه الخلافة وتطورها لتصبح هيئة أمم شرقية“.

عاد إلى مصر، وعُين مدرساً للقانون بكلية الحقوق سنة 1926م، وانتدب للتدريس بالجامعة العراقية ببغداد بدعوة من الحكومة العراقية سنة 1935م فأنشأ بها كلية الحقوق وتولى عمادتها، وأصدر مجلة القضاء، ووضع مشروع القانون المدني العراقي.

ثم عاد إلى مصر وعين عميداً لكلية الحقوق عام 1937م، وفي العام نفسه ترك الجامعة وعُين قاضياً بالمحاكم المختلطة. وفي عام 1939م عُين السنهوري وكيلاً لوزارة العدل، ثم وكيلاً لوزارة المعارف إلى أن استقال منها عام 1942م، فاشتغل بالمحاماة.

عاد إلى بغداد سنة 1943م ثم دمشق لإعداد مشروعي القانونين المدنيين العراقي والسوري، عاد إلى مصر وتولى وزارة المعارف ابتداءً من عام 1945م ثم اختير عضواً بمجمع اللغة العربية عام 1946م، ثم عُين رئيساً لمجلس الدولة عام 1949م، وفي عام 1954م تفرغ للتدريس في معهد الدراسات العربية، ثم دعته الحكومة الليبية بعد استقلالها لبناء منظومتها القانونية فوضع لها قانونها المدني، ونظم لها القضاء، ثم انجز المقومات القانونية والدستورية للكويتية والسودان والامارات، وتوفي في 21 يوليو عام 1971م.

من أهم اعماله([1]):

القوانين المدنية والدساتير
أنجز السنهوري المنظومات القانونية لأغلب الدول العربية، وساهم في بناء المقومات القانونية والدستورية، لكثير منها، مثل: مصر والعراق وسوريا والكويت وليبيا والسودان والإمارات…

الدراسات والأبحاث
“الدين والدولة في الإسلام” مجلة المحاماة الشرعية، السنة الأولى، العدد الأول، القاهرة، 1929م.
“تطور لائحة المحاكم الشرعية” مجلة المحاماة الشرعية، السنة الأولى، العدد الأول، القاهرة، 1929م.
“الشريعة الإسلامية” بحث مقدم للمؤتمر الدولي للقانون المقارن، لاهاي، 1932م.
“تقرير عن المؤتمر الدولي للقانون المقارن”، مجلة القضاء العراقية بغداد، 1932م
“المسؤولية التقصيرية” بالاشتراك مع حلمي بهجت بدوي، مجلة القانون والاقتصاد، القاهرة، 1932م.
“الشرق والإسلام” صحيفة السياسة الأسبوعية، القاهرة، 14 اكتوبر 1932م.
وجوب تنقيح القانون المدني المصري، وعلى أي أساس يكون هذا التنقيح، مجلة القانون والاقتصاد، السنة السادسة، العدد الأول، القاهرة، سنة 1933م. ص3-142.
نظرية العقد، 1934م.
“نبي المسلمين والعرب” مجلة الذكرى العراقية، بغداد، 1936م.
“من مجلة الأحكام العدلية إلى القانون المدني العراقي”، بغداد، 1936م
“مقارنة المجلة بالقانون المدني العراقي”، بغداد، 1936م.
“المسؤولية التقصيرية في الفقه الإسلامي”، مجلة القانون والاقتصاد.
“الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع المصري” نشرت في مجموعة إدوارد لا مبير، 1937م.
“الروابط الثقافية والقانونية في البلاد العربية”، القاهرة، 1936م.
علم أصول القانون، بغداد، 1936م.
عقد البيع، بغداد، 1936م.
“وصية غير المسلم وخضوعها للشريعة الإسلامية” القاهرة، 1942م.
الوسيط في شرح القانون المدني، في عشرة أجزاء، 1954م-1970م.
مصادر الحق في الفقه الإسلامي مقارنة بالفقه الغربي، في ستة أجزاء، 1954م-1959م.
(عقد الإيجار) 1929م.
فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، القاهرة، 1989م.
مجموعة مقالات وأبحاث الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري، جمع وتقديم نادية عبد الرزاق السنهوري وتوفيق محمد الشاوي، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، مطبعة جامعة القاهرة، 1992م.
عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية، إعداد نادية السنهوري، توفيق الشاوي، (الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1988م)
له عدة مقالات وأبحاث أخرى نُشرت في مجلة القانون والاقتصاد، ومجلة المحاماة الشرعية، ومجلة مجلس الدولة، وغيرها.
ثانيا: مكانة السنهوري

يعد الفقيه الدستوري الدكتور عبد الرزاق السنهوري قامة علمية متميزة في الفكر القانوني العربي وفي الدراسات الشرعية،فقد أجمع على إمامته في الميدانين معا كبار أساتذة القانون العرب والاوربيين([2])، وآثاره شاهدة على ذلك، فقد عهدت إليه معظم الدول العربية بوضع منظوماتها القانونية وصياغة دساتيرها والتدريس في جامعاتها. مما جعله يتبوأ عرش التجديد والإصلاح القانوني في الوطن العربي والمشرق الإسلامي طيلة عقود القرن العشرين([3]).

وقد تميز مشروعه القانوني برؤية واضحة وشمولية أثمرت ثروة كبرى في منهجية بناء التشريعات وصياغة القوانين، فإليه يرجع فضل صياغة كثير من المنظومات القانونية لمعظم الدول العربية، كمصر والعراق وسورية، والسودان والكويت والامارات…

وتأتي أهمية مشروع السنهوري ورؤيته بالنظر إلى السياق الثقافي والفكري والسياسي الذي ظهرت فيه، فقد ظهرت بعد سقوط الخلافة العثمانية، وتراجع الفقه الإسلامي عن تدبير الشؤون العامة للمجتمعات الإسلامية، وهيمنة القوانين الوضعية الغربية التي فرضها الاحتلال، ورغبة الدول الإسلامية المستقلة حديثا في بناء منظومات قانونية مستقلة، مما فرض على علماء الإصلاح وفقهاء الشريعة بث روح التجديد في الدراسات الشرعية وجعلها مواكبة لقضايا العصر مستوعبة للمستجدات الحادثة في مختلف المجالات التنظيمية والسياسية والاجتماعية…

إلا أن المتتبع للدراسات والأبحاث حول جهود السنهوري وآثاره القانونية والشرعية يلاحظ طغيان الجانب القانوني على الجانب الشرعي، فكثير من الباحثين يجهلون أو يتجاهلون اهتمام السنهوري وإبداعه في الجانب الشرعي، وأبحاثه ومؤلفاته شاهدة على ذلك.

فقد قدم أطروحة متميزة حول تكامل الدين والدولة في الإسلام، وقدم مفهوما متميزا للتشريع يوازن بين الدينية والمدنية، ودعا إلى اعتبار الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي المرجع الوحيد والمصدر الأساس الذي تؤخذ منه التشريعات والقوانين المنظمة لشؤون الاجتماع الإنساني، حتى يتحقق الاستقلال التام، فقد ربط بين الاستقلال الثقافي والسياسي بالاستقلال القانوني والتشريعي،وانتقد الذين يدعون إلى استبدال المدنية الغربية بالمدنية الإسلامية، وانتقد الذين تبنوا المناهج الفكرية الغربية في دراسة تاريخنا وحضارتنا ونظمنا الاجتماعية والسياسية والتشريعية، وهذا ما يلاحظه المتتبع لمشروعه في تجديد وإحياء الفقه الاسلامي، وفي تقنين الشريعة الإسلامية، وفتح باب الاجتهاد، واعتمادها أساس إسلامية القانون والمدنية الحديثة.

ثالثا: منزلة الشريعة الإسلامية من المشروع القانوني للسنهوري

اهتم السنهوري ببيان تميز الشريعة الإسلامية عن المنظومات القانونية الغربية، وتفوق الفقه الإسلامي عن القانون الوضعي، سواء من حيث متانة فلسفة التشريع، أم قوة الصياغة الفقهية، أم في قدرة الشريعة على مواكبة الحاجيات التشريعية.

وقد كان هدفه الأساس هو بناء منظومة قانونية إسلامية مدنية مستقلة، تكون فيها المرجعية الإسلامية هي المصدر الوحيد للأحكام والتشريعات، ولا تقتبس من المنظومات القانونية الغربية إلا فن الصياغة فقط، مع أنه أشار إلى متانة الصياغة الفقهية للأحكام التي تضمنتها كتب الفقهاء. ليتحقق بذلك للأمة الاستقلال القانوني والتشريعي، ” وإذا كنا نقول بالاستفادة -دون تحفظ – من التقنيات الغربية، فمن ناحية الشكل والصياغة؛ ففي المادة والموضوع نتحفظ كثيرا في هذا القول”([4]).

وفي إطار حديثه عن نظرية الدولة في الإسلام وعلاقة الدين بتدبير شؤون الاجتماع البشري، عرض أطروحته المتميزة، فالإسلام نظام شامل يجمع بين الدين والدولة مع التمييز بينهما، ومن ثم فالتشريع الإسلامي عند السنهوري تشريع ديني ومدني، فالإسلام “يمتاز بأنه: دين ودولة، وقد أرسل النبي لا لتأسيس دين فحسب؛ بل لبناء قواعد دولة تتناول شؤون الدنيا، فهو بهذا الاعتبار مؤسس الحكومة الإسلامية كما أنه نبي المسلمين…، ومن هنا وجب التمييز بين الدين الإسلامي والدولة الإسلامية، وإن كان الإسلام يجمع بين الشيئين، وفائدة هذا التمييز في أن مسائل الدين تدرس بروح غير التي تدرس بها مسائل الدولة، فالدين ينظر إلى العلاقة بين العبد وخالقه، وهذه لا تتغير، ولا يجب أن تتغير، فالخالق أبدي أزلي، لا يجوز عليه التبديل ولا التغير، فالعلاقة بينه وبين العبد ثابتة لا تتطور، أما مسائل الدولة فالنظر فيها يكون نظر مصلحة وتدبر”([5]).

واهتمبسبلإدراجالشريعةالإسلاميةفيالتقنياتالمدنيةالعربية، بصورةتدريجية. حتى تصبح المصدر الأساسي للتشريع، “إن استقاء تشريعنا من مصدر الشريعة الإسلامية عمل يتفق مع تقاليدنا القانونية القديمة، ويستقيم مع النظر الصحيح من أن القانون لا يخلق خلقا، بل ينمو ويتطور، ويتصل حاصره بماضيه، هذا من الناحية التاريخية. أما من الناحية العلمية، فالسريعة الاسلامية تعد في نظر المنصفين من أرقى النظم القانونية في العالم، وهي تصلح أن تكون دعامة من دعائم القانون المقارن، ولا نعرف في تاريخ القانون نظاما قانونيا قام على دعائم ثابتة من المنطق القانوني الدقيق يضاهي منطق القانون الروماني إلا الشريعة الإسلامية، فإذا كان لنا هذا التراث العظيم، فكيف يجوز لنا أن نفرط فيه؟”([6])

واعتمد على الدراسات المقارنة ليبين تفوقالشريعةالإسلامية وتميز فقهها عن المنظومات القانونية الغربية، واعتمد على المنهج المقارن ليجعل الفقه الإسلامي عنصرا من عناصر نهضة وإثراء الفقه العالمي([7]).

دعا إلى تجديد الفقه الإسلامي وفتح باب الاجتهاد، والنهوضبدراسةالفقهالإسلاميفيضوءالقانونالمقارن، إذ “يجب تناول الشريعة الإسلامية بأسلوب العصر الحاضر، وتقريب الأحكام الأخرى إليها بقدر المستطاع، حتى يكون عمل الجميع مبنيا على أساس متين من الشريعة الإسلامية وغيرها مما يقرب منها”([8]).

وتجديد الفقه وفتح باب الاجتهاد وإحياء الشريعة الإسلامية لا يعني الخروج عنها أو تجاوز ثوابتها وكلياتها بدعوى التطوير، “فالواجب أن تدرس الشريعة الإسلامية دراسة علمية دقيقة، وفقا لأصول صناعتها، ولا يجوز أن نخرج على هذه الأصول بدعوى أن التطور يقتضي هذا الخروج”([9]).

ولإحياء الاجتهاد وتجديد الفقه الإسلامي دعا السنهوري لإنشاء “معهد الفقه الإسلامي المقارن” سنة 1946، وقد كان “الغرض من إنشائه هو إيجاد بيئة علمية لدراسات في الفقه الإسلامي وقواعده العامة، على اختلاف المذاهب، مقارنة بالقواعد القانونية الحديثة، وتعريف عالم القانون الغربي بالفقه الإسلامي وما ينطوي عليه من حسن الصياغة ودقة التحليل…وأن يكون معهدا لتكوين الباحثين في الفقه الإسلامي المقارن…ونشر المخطوطات ووضع مؤلفات في الفقه الإسلامي…وذلك حتى يتيسر لنا إلقاء نظرة عميقة محيطة فاحصة على تراث علماء المسلمين، وتفهمنا روحهم التفهم الصحيح، وبذلك يمكن التطور بالفقه الإسلامي على نفس الأسس والقواعد التي أورث السير عليها الإنسانية أعظم حضارة عرفها التاريخ، وحتى يبلغ مبلغ القوانين الأخرى التي لا يقل عنها سلامة فكرة، ولا وضوح غاية، ولا حسن صياغة “([10]).

وإحياء الشريعة الإسلامية في نظره يتوقف على التمييز والفصل بين أحكام الدين المحضة من عقائد وعبادات، وبين أحكام المعاملات، كما يقوم على التمييز بين القواعد العامة والأحكام والفر وع الفقهية، فالقواعد العامة أصول ثابتة لا تتغير صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، بينما الفروع الفقهية أحكام قد تتغير حسب المصلحة زمانا ومكانا. قال: “أرى أن الأساس الذي يبنى عليه إحياء الشريعة الإسلامية يجب أن يكون كما يلي:

تمييز الاعتقاد الديني المحض عن الشريعة باعتبارها قانونا لتنظيم علاقات البشر بعضها بالبعض (الفقه أو علم الفروع)
في نطاق الفقه، يؤخذ الجزء الخاص بالقانون (خالصا من الجزء الخاص بالعقائد والعبادات) ويستخرج منه القواعد العامة للشريعة الإسلامية، وهي قواعد تصلح لعموميتها أن تطبق كل زمان ومكان، وتعتبر هذه القواعد أصولا للشريعة الإسلامية.
هذه الأصول لا تتغير باعتبارها أصولا، ولكن تطبيقاتها تختلف، أولا: باختلاف الزمن، ثانيا: باختلاف الأمم.
وعلى هذا تكون هناك أصول لا تتغير، وتفاصيل تتغير بتغير الزمن والمكان، وهذا هو المعنى الذي يجب أن يعطى للمذاهب المختلفة، على أنها مذاهب لتطبيق أصول الشريعة الإسلامية حسب الزمن والمكان”([11]).

ودعا إلى اتخاذالشريعةالإسلاميةكأساسلتوحيدالقوانينالمدنيةالعربية، وخطوة نحو الوحدة السياسية والثقافية لدول الشرق الإسلامي “ووحدة الدين واللغة كفيلة بتسهيل هذه المهمة الدقيقة”([12])، فقد كان يطمح إلى صياغة قانون دولي إسلامي يحكم العلاقات بين الدول الإسلامية، التي تنتظم تحت هيئة الأمم الشرقية الإسلامية التي كان يدعو لها، إذ ” متى كانت الشريعة أساسا للقوانين المدنية في الأمم الشرقية سهل وضع مشروع للقانون الدولي الخاص الموحد تطبقه كل الأمم الشرقية على السواء”.([13])

كما دعا أيضا إلى الاعتمادعلى الأجماع كمصدر هام للتشريع في الوقائع المستحدثة التي يفرزها التغير الاجتماعي. فقد ربط السنهوري بين فتح باب الاجتهاد وتفعيل أصل الاجماع قال: “فما بالنا لو فتحنا باب الاجتهاد من جديد واستفدنا من أكثر المصادر مرونة في الشريعة الإسلامية وهو مصدر الإجماع، فسرنا بالشريعة الإسلامية كما سار بها أجدادنا أشواطا بعيدة، وأعدنا لها جدتها، وأبرزناها في ثوب قشيب؟”([14])

المسألة الثانية: مفهوم التشريع عند السنهوري

التشريع الذي يتحدث عنه السنهوري هو التشريع المقيد في ميدان المعاملات، فهو يؤكد في كثير من الفقرات من كتابه “فقه الخلافة”وفي كثير من مقالاته، على أن التشريع المطلق حق لله تعالى لا ينازعه فيه أحد ولا يشركه فيه غيره، وهكذا فالتشريع عنده نوعان:

الأول: التشريع الإلهي، يقول: “من الوجهة النظرية البحثة، التشريع الإسلامي في الأصل تشريع سماوي، يصدر عن الله تعالى، (إما قرآنا أو سنة) وهذان المصدران قد اكتملا بوفاة الرسول الذي كان بشرا ذا حياة محدودة العمر”([15]). فالمشرع عند المسلمين هو الله تعالى لا حد لسلطانه ولا راد لإرادته، فهو الشارع لأمور الدين والدنيا، مشيئته نافذة وأمره قانون.

الثاني: التشريع الإجماعي، يقول “وبعد وفاة النبي، بقي للشريعة الإسلامية مصدر متجدد دائم يتولى إرشاد الأمة وهدايتها، وهو الإجماع، والذي يعتبر في المرتبة الثالثة من مصادر التشريع الإسلامي”([16]).

ذلك أن الأحكام الدنيوية لما كانت تتطور تبعا للمدنية، وكان لا بد من انقطاع الوحي بقبض الرسول أصبح محتما أن يكون لدى المسلمين مصدر ثالث للتشريع هو الذي يضمن للأحكام الدنيوية جدتها وتمشيها مع الزمن، وهذا المصدر هو إجماع الأمة([17]).

فسلطة التشريع في الدولة الإسلامية حسب السنهوري هي سلطة نيابية عن الأمة، يتولاها الفقهاء المجتهدون في حدود النصوص الشرعية، نيابة عن الأمة صاحبة السلطة الأصلية في التشريع، هذه السلطة النيابية اصطلح عليها في الفقه الإسلامي بالإجماع.

والإجماع عند السنهوري هو: “اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي، وليس المجتهدون طبقة من الطبقات كما كان معهودا في طبقة النبلاء، أو طبقة الكهنة، بل لكل مسلم أن يكون مجتهدا إذا وصل إلى العلم بالاجتهاد”([18]).

فالإجماع حسب السنهوري نظام تشريعي نيابي غير منتخب، يحقق مرونة الشريعة وتطورها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وقدرتها على مواكبة كل المستجدات والمتغيرات، من شأن إعماله وتفعيله تزويد الدولة بالتشريعات والقوانين اللازمة لتنظيم المجتمع، يقول:

” فمعنى أن الاجماع قانون: أن طائفة من المسلمين ينوبون عن الأمة الإسلامية، ونيابتهم آتية لا بطريق التصويت العام، كالمعتاد في المجالس النيابية الحديثة، بل بطريق: العلم. وهذه الطائفة تملك قوة التشريع في حدود الكتاب والسنة، فحكومة المسلمين حكومة علماء، لقد جعل الله الأمة الإسلامية صاحبة السلطان في شؤونها ما دامت تستعمل ذلك السلطان في حدود الكتاب والسنة.

ولما كان غير متيسر أن يشترك كل فرد من أفراد الأمة في ذلك السلطان، كان لا بد أن يكون للأمة ممثلون يتوفرون على ما يجب من كفاءة خاصة، وهم: المجتهدون، يستعملون ذلك السلطان باسمها، لا باعتبار أنهم سادة عليها، بل وكلاء عنها، فالأمة هي صاحبة السلطان، وهي خليفة الله في أرضه، وتستعمل سلطانها بواسطة وكلاء عنها، فإذا أردنا أن نبحث عن السلطة التشريعية في الدولة الإسلامية وجدناها، بعد الله في الأمة نفسها، لا في فرد من الأفراد، ولا في طبقة من الطبقات”([19]).

وقد عول السنهوري على الإجماع في تجديد الفقه والشريعة الإسلامية، وجعل أحكامها تواكب مستجدات الحيات، مما يحقق لها خاصية المرونة والقدرة على التطور، قال: “فالإجماع مفتاح التطور في الشريعة الإسلامية، فهو الذي يكفل لها حياة متجددة تتماشى مع مقتضيات المدنيات المتغيرة… فلو تطور الإجماع – في مراحله المنطقية – وجب أن يصل إلى مرحلة يصدر فيها عن هذا الاتفاق المقصود، ولا يكتفي فيه بالاتفاق العرضي، فيجتمع المسلمون، أو نواب عنهم، ويستعرضون مسائلهم ويقررون فيها أحكاما تتفق مع حضارة زمنهم، وهذه الأحكام تكون تشريعا، وبذلك يكون الإجماع عنصر التجديد في الشريعة الإسلامية، يحتفظ لها بمرونتها وبقدرتها على التطور”([20])

المسألة الثالثة: الإجماع أساس البناء التشريعي الإسلامي

يكتسي الإجماع عند السنهوري أهمية بالغة في النظام التشريعي الإسلامي لأنه يحقق عدة أهداف منها:

أولا: الإجماع يحقق نيابة الأمة وخلافتها،

“فالأمة هي التي تعبر عن الإرادة الإلهية بإجماعها، إن إجماع الأمة نوع من صور التعبير عن الإرادة الإلهية، استنادا إلى العبارة الرائعة للحديث الشريف: “إن الله أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة”([21])، وهذا ما يميز النظرية التشريعية الإسلامية التي سبقت كل النظريات السياسية والتشريعية في اعتبار رأي الأمة وإجماعها مصدر السيادة والتشريع، ذلك “أن أي صورة للديمقراطية الحديثة لا يمكن أن تكون أبلغ مما قرره الإسلام من أن إرادة الأمة هي التي تعبر عن إرادة الله، وأن التشريع يكون بإجماع صادر عن إرادة الأمة فلها وحدها دون حكامها -حتى ولو كانوا خلفاء-حق التعبير عن الإرادة الإلهية بعد القرآن والسنة النبوية”([22]).

ومن ثم فالإجماع يحقق فكرة النيابة والخلافة المنوطة بالأمة، فالله لم يتركنا بغير مرشد بعد وفاة النبي، بل استخلفنا في الأرض، ومنحنا شرف خلافته، بأن اعتبر إرادة الأمة مستمدة من إرادة الله، وجعل إجماع الأمة شريعة ملزمة، فكأن الإرادة الإلهية والحق في التشريع أصبح بعد انقطاع الوحي وديعة في يد مجموع الأمة([23]).

ثانيا: الإجماع يعبر عن إرادة الأمة وسيادتها،

ربط السنهوري بين فكرة الإجماع ونظرية السيادة في الإسلام، فهو يرى أن سيادة الأمة هي سيادة الشريعة، وأن الله استخلفنا في الأرض، ومنحنا شرف خلافته بأن اعتبر إرادة الأمة تعبير عن إرادة الله، وجعل إجماع الأمة شريعة ملزمة، فبعد انقطاع الوحي أصبحت السيادة الإلهية، والحق في التشريع وديعة في يد مجموع الأمة، يقول في هذا السياق: “إن اعتبار إجماع الأمة مصدرا للتشريع الإسلامي هو نواة المبدأ الحديث الذي يجعل إرادة الأمة مصدر السلطات. والذي يعبر عنه بمبدأ سيادة الأمة في النظم العصرية”([24]).

والسيادة بمعنى السلطة المطلقة غير المحدودة هي لله وحده، لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فالله وحده صاحب السيادة العليا وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع ومصدرها والتعبير عنها هو القرآن والسنة، ثم إجماع الأمة.

ثالثا: الإجماع يجعل من سلطة التشريع في الأمور العامة الدنيوية حقا للأمة،

“فالأمة الإسلامية تملك سلطة التشريع بطريق الإجماع، أما ولي الأمر وهو الخليفة فلا يملك من هذه السلطة شيئا”([25]). فسلطة التشريع حق لله وحده فوضها للأمة في مجموعها، في القضايا الدنيوية، فقد “جعل سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية صاحبة السلطان في شؤونها ما دامت تستعمل ذلك السلطان في حدود الكتاب والسنة”([26]).

رابعا: الإجماع مصدر التشريع الفقهي المتجدد،

يرى الدكتور السنهوري أن الإجماع يكسب أحكام الشريعة عنصر المرونة والتطور، والقدرة على مواكبة متغيرات الحياة وسد الحاجيات التشريعية للمجتمعات المعاصرة، “فالإجماع يسد حاجات المجتمع الإسلامي إلى أحكام جديدة، وهذه الحاجات تزداد بمضي العصور وتغير الظروف. فهو إذن أداة فنية ضرورية لصياغة أحكام الشريعة (وتقنينها) ونموها وملاءمتها مع حاجات المجتمع وظروفه”([27]).

فوجود الإجماع في نظره؛ كمصدر للتشريع، كان أمراً ضرورياً ومحتما، لأن نصوص الوحي-قرآنا سنة-، قد اكتملت وأخذت صورة نهائية بوفاة النبيr، ومن ثم فالمنهجية التشريعية تقتضي وجود مصدر متجدد دائم يتولى إرشاد الأمة وهدايتها، ويضمن لأحكام الشريعة الإسلامية الدنيوية جدتها وتمشيها مع الزمن، في نمو مستمر، وتطور متواصل.

“ذلك أن هناك مصدرا معترفا به من مصادر الشريعة الإسلامية، وهو الإجماع، لم ندرك حتى اليوم خصوبته ومقدار ما يستطيع أن يواتي به الشريعة من عوامل التطور، فالإجماع – كمصدر للفقه الإسلامي – كان في أول أمره مقصورا على عرف أهل المدينة، ثم تطورت فكرة الإجماع فجاوزت هذا النطاق الضيق إلى ما اجمعت عليه الفقهاء في عصور ثلاثة: عصر الصحابة، وعصر التابعين، وعصر تابعي التابعين، ثم اتسعت الفكرة فأصبحت هي الفقهاء في أي عصر وفي أي بلد، والفكرة على هذا الوجه منتجة خصبة، يمكن الانتفاع بها إلى مدى بعيد في تطوير الفقه الإسلامي

فالقائمون بدراسة هذا الفقه عليهم أن يجتهدوا في استنباط الأحكام التي تلائم هذا العصر، وفقا لأصول الصناعة الفقهية الإسلامية، ومتى أجمعت كثرتهم على رأي أصبح هذا الرأي جزءا أصيلا من الشريعة الإسلامية، يستمد وجوده من الإجماع، ونكون بذلك قد جددنا في أحكام الشريعة الإسلامية، دون أن نخل بأصولها أو ننحرف عن مصادرها”([28]).

خامسا: الإجماع أساس التقنين وصياغة الأحكام،

ذلك “أن اهتمام الفقهاء بأن يكون للإجماع سند مستمد من مصادر الشريعة الأخرى، يمكن أن يفهم منه أن دور الإجماع هو أن يكون المصدر المباشر للتشريع (أو التقنين) أي أن مهمته الأولى هي (التقنين أو صياغة الأحكام) المستمدة من كتاب والسنة أو من الاجتهاد ووضعها في الصورة المناسبة للجيل الذي يعاصره”([29]).

وهكذا فالإجماع عند السنهوري يعتبر أداة فنية ضرورية لصياغة أحكام الشريعة، وتقنينها ونموها وملاءمتها مع حاجات المجتمع وظروفه.

سادسا: الإجماع أساس اكتساب الأحكام الاجتهادية الصفة الإلزامية،

الإجماع أساس اكتساب الأحكام الاجتهادية الصفة الإلزامية والقابلية للتطبيق والإعمال، فقد تنبه السنهوري إلى هذه الخاصية المهمة للإجماع، ذلك أن الإجماع أساس اكتساب الأحكام التي تستمد من الاجتهاد الصفة الإلزامية، إذا أجمع عليه المجتهدون في عصر معين، وذلك في المسائل المستحدثة التي لم يرد بشأنها نص في الكتاب والسنة،… ويمكن القول بأن الإجماع في أبسط صورة هي إقرار الأحكام التي تستمد من توافق ضمني استقر بمضي الزمن في صورة عرف، ثم إنه أداة لإقرار الأحكام الناتجة عن اتفاق صريح في الرأي بين الصحابة، أو بين المجتهدين بعدهم”([30]).

المسألة الرابعة: الإجماع أساس النظام النيابي في الإسلام

يرى السنهوري أن تحقيق الأهداف التشريعية السابقة مرتبط بتنظيم الإجماع وإعماله لسد الحاجات التشريعية للمجتمع المعاصر، “فأهمية الإجماع كمصدر للتشريع تزداد إذا لاحظنا أنه في نفس الوقت كالشورى يعتبر أساسا للنظام النيابي في الإسلام، ولذلك وصفه المستشرق جولدزيهر بأنه مفتاح التطور التاريخي للإسلام من الناحية السياسية والعلمية والتشريعية”([31]).

وقد أشار السنهوري إلى العوائق والعقبات التي واجهت تنظيم وإعمال الإجماع قديما، رغم أن اتخاذ فكرة الإجماع أساس للنظام النيابي في الحكم لم تكن غريبة عن المبادئ التي أشارت لها كتب الفقهاء الأقدمين، وكان من المتوقع أن يتطور الإجماع ليأخذ صورة الاتفاق الشوري الذي يتم بعد المناقشة والمداولة، وفي مجامع أو ندوات أو مجالس تضم جميع مجتهدي العصر أو الجيل الذي صدر فيه، ولكن فقهاءنا لم يصلوا إلى مرحلة تنظيم الهيئة التي تتولى الإجماع في صورة مجلس للحوار والتشاور، ولم يعرف الإسلام في تاريخه مجالس للعلماء أو المجتهدين، بل وقف علماؤنا أمام هذه الخطوة الضرورية مما أوشك أن يصيب هذا المصدر الضروري بالعقم رغم أنه يحمل في ثناياه قابلية الفقه الإسلامي للنماء والتطور([32]).

ويمكن عرض المرتكزات الأساس لأطروحة السنهوري في إعمال الإجماع وتنظيمه لصياغة القوانين والتشريعات، وفق النقاط التالية:

أولا:تنظيم الإجماع في مجلس خاص،

لكي يؤدي الإجماع وظيفته التشريعية ويحقق أهدافه ومقاصده لا بد من تنظيمه في شكل مؤسسة أو هيئة تشريعية، ومن ثم دعا السنهوري إلى تنظيم الإجماع في مجلس خاص ليواصل تطوره ويقوم بوظيفته، يقول: “ولكي يواصل الإجماع تطوره على النحو الذي أوضحناه ليقوم بوظيفته الطبيعية نرى أنه لا بد من خطوتين:

تنظيم الأداة العملية للإجماع بطريق مداولة في مجلس الشورى.
اتخاذ الإجماع أساساً للنظام النيابي في الحكم الإسلامي، وهذه الفكرة ليست غريبة عن المبادئ التي أشارت لها كتب الفقهاء الأقدمين”.([33])
ثانيا: مجال التشريع الإجماعي،

يرى السنهوري أن التشريع الإجماعي يشمل جميع الأحكام التي يحتاجها المجتمع الإسلامي. وتحتاجها الدولة لتنظيم شؤون الاجتماع العمراني والإنساني، والقوانين التي تنظم أمور المدنية من قضايا فقه المعاملات، دون القضايا التعبدية والعقدية، فقد دعا إلى التمييز بين القضايا الفقهية القانونية وبين القضايا الدينية المحضة، بعد تأكيده على أن الإسلام نظام شامل، يجمع بين الدين والدولة، إلا أن قضايا الدولة تبحث بمنهج غير المنهج الذي تبحث به قضايا الدين والتعبد. إذ يجب “الفصل بين الجزء الديني والجزء الزمني في الشريعة الإسلامية، ذلك أن الجزء الديني يجب أن يفلت من دائرة دراستنا ليبقى حكرا لرجال الدين من المسلمين”([34])

يقول: “لا شك أن الإسلام دين ودولة، والدولة لابد لها من فقه، ولكن فقهاء الشريعة الإسلامية كانوا يدركون إدراكا تاما الحد الفاصل بين الفقه – وقد وضع لتعامل الناس وتنظيم علاقاتهم ببعضهم البعض- والدين – وهو أمر يتصل بعلاقة الإنسان بربه- حتى تراهم يميزون في الشيء أن يكون صحيحا قضاء مكروها ديانة”([35]).

فأحكام الدين المحضة من عبادات وعقائد ثابتة لا تتغير، أما أحكام ومسائل الدولة فإنها تتطور مع الزمن والمكان، فهي تابعة للتطور الاجتماعي الذي يهدينا إليه العلم، وهي أحكام خاضعة للعلم المبني على العقل، فهي تابعة بالضرورة لما يكشفه العلم الاجتماعي من قوانين التطور([36]).

وقد دعا إلى الاقتصار من أمور الفقه على قضايا المعاملات، فهذه هي الدائرة القانونية، واقترح أن تتم تسمية أبواب الفقه الخاصة بالمعاملات “بالقانون الإسلامي”. ودعا إلى تقسيم القانون الإسلامي إلى: قانون خاص، وقانون عام.

فالقانون الخاص: يشمل القواعد التي تضبط علاقات الأفراد بعضها بالبعض الآخر، فأبواب المعاملات، والأحوال الشخصية تدخل في القانون الخاص. ونجد فيه: القانون المدني، وقانون المرافعات، والقانون التجاري…

والقانون العام: يشمل القواعد التي تسري على السلطات العامة، وعلاقة هذه السلطات بالأفراد، ونجد في القانون الإسلامي العام: القانون الدستوري، والإداري، …

” ولا يراد بهذا التقسيم أن تندمج الشريعة الإسلامية في القانون الحديث، وأن تفقد استقلالها، وإنما يراد بهذا تسهيل المقارنة بين الشيئين، وفتح باب لترقية طرق البحث في الشريعة الإسلامية بحيث تتماشى مع القانون الحديث في تقدمه”([37]).

ثالثا: عضوية المجلس،

وضع الأحكام التي يحتاجها المجتمع المسلم يستلزم علما بمصادر الشريعة وأحكامها وعلما بأحوال الناس وحاجاتهم. وبهذا يقترح السنهوري نوعين من المجتهدين لعضوية المجلس:

رجال الفقه الذين يختصون بالمسائل الفقهية النظرية.
الخبراء ورجال العمل من المختصين بمعرفة مختلف نواحي الحياة الاجتماعية المعقدة كرجال الزراعة، أو الصناعة، أو التجارة، أو المال، أو السياسة، أو الحرب وأمثالهم، فهم مجتهدون من نوع خاص.
وعليه يؤكد السنهوري أنه “إذا وجدت مجالس الشورى تضم رجالا من هذا النوع فإننا بذلك ندخل في استنباط الأحكام الإسلامية بجانب رجال الفقه النظريين، عنصرا ضروريا لكي تجيء الأحكام الشرعية ملائمة لحاجات الناس من النواحي الاقتصادي والاجتماعية التي تستلزم وضع هذه الأحكام”([38]).

رابعا: طريقة الاختيار

يرى السنهوري أن عضوية مجلس الشورى وطريقة الاختيار مسألة اجتهادية تخضع لظروف المجتمع ومصالحه، ويشير إلى أنه يمكن اختيارهم عن طريق انتخابهم بواسطة عامة المسلمين، لأن المسلمين أعلم بمن هو أكثر دراية بشؤونهم وإحساسا بحاجاتهم ومصالحهم، والسنهوري يرجح طريقة الانتخاب على الطرق الأخرى ويعتبر%

إغلاق